ذكريات العيد في إربد (جنازة فيل ) بقلم: حازم الخالدي



كان العيد مختلفا، أكثر جمالا وحيوية ومتعة للأطفال ، لا يتوقف بريقه عند الملابس الجديدة، والألعاب وغيرها من الطقوس التي تقوم بها العائلة، فالتحضيرات كبيرة وكثيرة على مستوى الأفراد والأسرة والتجار الذين يجهزون بضائعهم الخاصة بمستلزمات العيد، وكنا ننتظر بفارغ الصبر مبادرات التجار والمتعهدين، الذين يُعدون البرامج الترفيهية والمسلية للأطفال، فكانت السينما تستضيف - عدا عروض الأفلام - نجوم الفن في استعراضات غنائية ومسرحية، ويقتصر البعض على نصب المراجيح في الساحات العامة والأماكن المفتوحة في الحارات( كانت المساحات شاسعة بين المنازل)،فتلاقي الإقبال من الأطفال الذين ينتظرونها بشغف من عيد إلى عيد. وكان الأطفال واليافعون يستأجرون الدراجات الهوائية،ويتجولون في أرجاء الحارات، ويركبون جماعيا السيارات و( الطرطيرة )، وكانت وسيلة نقل مستخدمة كثيرا، أو البكمات أو عربات الخيل في جولات بين الأحياء السكنية، فرحين مبتهجين وتنطلق حناجرهم بالأغاني والأناشيد الشعبية، كما يتجمع الأطفال في الساحات وفي الأسواق الرئيسية لشراء الألعاب والانشاد وتناول وجبات الأطعمة الخفيفة، ومن كثرة التجمعات والازدحامات كانت بعض الشوارع تغلق في يوم العيد .
العيد كان حالة من الفرح تجدها عند الكبير والصغير وبهجة لا توصف ، كنا نستغل كل لحظات العيد، فنصحو باكرا ولا ندخل البيت إلا بوقت متأخر، ولا تنمحي من ذاكرتي في طفولتي وأتحدث عن فترة السبعينيات من القرن الماضي في مدينة إربد بالذات ، في أحد الأعياد وأتوقع في عام 1975 ، أقيمت عروض سيرك، وكنت حينها في الصف الأول إعدادي (السابع) حاليا، وأدرس في مدرسة عمر المختار المجاورة للملعب البلدي ، فكان خط سيرنا مشيا على الأقدام، من المنطقة التي أسكن فيها عند دوار شركة الكهرباء في الحي الشمالي، حيث تبدأ رحلتنا اليومية من هناك مع أصدقاء وزملاء ما زلت على تواصل معهم إلى اليوم، وهم(إسماعيل غصاب، وأصبح دكتورا ومدرسا للتربية الرياضية في جامعة اليرموك، وأحمد ملكاوي (أبو سفحه) أيضا حصل على دكتوراه في اللغة العربية، وعبدالله عويس دكتوراة في هندسة البيئة ، نذهب إلى المدرسة سويا، برفقة من نلتقي معهم في الطريق، لنشكل مجموعة كبيرة ، فالمسافة طويلة ، ولكن لا نشعر بها لسعادتنا الغامرة في ذلك الوقت، وكانت رحلتنا تتوقف عند محطات حيث لا باصات ولا سرفيس ولا سيارات خاصة تنقلنا إلى المدرسة؛ المحطة الأولى عند دوار سال الكبير حيث كان مزروعا بالورود التي تنتشر على محيطه الدائري نشتمها ونتمتع برائحتها وألوانها، ونواصل مسيرنا، ثم نمر بجوار المدرسة التجارية الثانوية للبنات ، وكانت تقع في آخر شارع الهاشمي ، نسترق النظر هنا وهناك، وبعدها ونحن نتجه إلى المدرسة ندخل من الباب الشمالي للملعب البلدي وكان مشرعا ومفتوحا ، نشق طريقنا إلى داخل الملعب الذي كانت تقام عليه مباريات دوري الدرجة الأولى (الممتاز ) حاليا، وكانت في ذلك الوقت تتنافس 6 فرق وهي الفيصلي والأهلي والجزيرة والعربي والحسين والقوقازي، وأحيانا عين كارم والجيل، كان فريق العربي يحظى بشعبية كبيرة في مدينة إربد، فلم يكن ناديا رياضيا فقط ، بل على أرضه تعرض المسرحيات بالذات لفناني المدينة، والندوات التثقيفية،وأحيانا مؤتمرات، كان اسما على مسمى، تشع منه الثقافة والفن والمتعة ، وفي الملعب أحيانا نشاهد التمارين لفريقي العربي والحسين، لا ننسى الحارس وليد أبو الليل الذي كنا نستمتع ونحن نراه يصد الكرات من أمهر المهاجمين، وفي إحدى المباريات ومن شدة حماسه ودفاعه عن المرمى ضُرب رأسه في خشبة المرمى وسالت منه الدماء ونقل إلى المستشفى ، وعاد بعد أيام إلى الملعب متعافيا، كنا نتوقف قليلا داخل الملعب وأحيانا نقضي وقتا ليس بالقليل في اللعب، سواء عند الذهاب أو العودة إلى المنزل، وللعلم كان دوام مدرستنا على فترتين (صباحي/ مسائي) .
وأذكر تماما في أحد الأعياد أقيمت عروض سيرك على أرض الملعب البلدي الذي تقام عليه مباريات كرة القدم، ونصبت خيمة كبيرة إضافة إلى تجهيزات السيرك باتجاه خشبات المرمى من الجهة الشمالية للملعب، التي أزيلت لغايات تنظيم العروض، التي كانت تشمل الألعاب البهلوانية والحبل.
ومن العروض الترفيهية المسلية التي أثارت انتباه الجميع، فقرات عروض الفيلة التي جاءت إلى إربد من الهند لأول مرة، فكنا نمر من داخل الملعب لنشاهدها كحيوانات غريبة لم نكن نراها من قبل، حظي السيرك وعروض الفيلة خلال فترة العيد بنسبة مشاهدة عالية، ونظرا لهذا الاقبال المتزايد من العائلات الاربداوية، مَدد القائمون على السيرك فترات العروض إلى أيام أطول، وقتئذ دخل فصل الشتاء مبكرا وهطلت الأمطار الغزيرة على مدينة إربد فتحول الملعب البلدي الترابي إلى ساحة من الوحل، ولشدة الهطول المطري تهدمت الخيم ولم تكن الظروف الجوية ملائمة للفيلة، فانتكست صحتها وبعد أيام فارقت الحياة، واحتار القائمون بشأن جثثها آنذاك، فلم يكن هناك مجال إلا دفنها في المكان الذي ماتت به، وبعد أن هدأت الأحوال الجوية، جاءت الجرافات وحفرت حفرة كبيرة وفي نفس المكان الذي كانت تتواجد به خشبات المرمى الشمالي للملعب، وقفنا مع بقية الأطفال ومعظمنا من طلبة مدرسة عمر المختار وأيضا مدرسة عمار بن ياسر، (لاحظوا ما أجمل أسماء المدارس)، كانت تحمل قيما ومعاني ودلالات ، الآن مبنى المدرستين ما تزالا في مكانهما مهجورتين، حان وقت دفن الفيلة تجمهرنا مع بقية الناس لنشاهد مراحل التشييع، ورؤية الفيلة التي نفقت بفعل البرد، كنا ننظر إلى حجم كل فيل، يتدحرج بثقل في الحفرة الكبيرة، وانهال عليها التراب واكتمل دفنها جميعها، وسويت الأرض وكأن شيئا لم يكن، وعادت خشبات المرمى فوقها تستقبل مباريات كرة القدم .
دائما يتبادر إلى ذهني أفكار غريبة، فربما بعد سنين طوال لو حُفر في المكان سيكتشف العلماء وجود هياكل عظمية لفيلة، ويعلنون بأن مدينة إربد كانت مدينة استوائية تعيش الفيلة عليها.
ذكريات الطفولة في العيد لا تنسى في إربد.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :