مسيحيو الشرق .. جذر غائر في عمق التاريخ


عمانيات - نعيش هذه الأيام في رحاب الأعياد المقدسة للإخوة المسيحيين، شركاء الدم الذين وقفوا إلى جانب إخوانهم وشركائهم في الأرض للدفاع عنها ضد ما تعرضت إليه من هجمات استعمارية عبر مر العصور.

إن مسيحيي الشرق، هم ملح الأرض الذين تمتد جذورهم في بلادنا إلى بدء الخليقة؛ وهم الذين ساهموا مساهمة أصيلة في بناء مجتمعاتنا والانصهار فيها منتمين إلى ثقافتها حاملين ما انبثق عنها من عادات وتقاليد محلية وقيم إنسانية مستمدة من ذلك المنبع الشرقي الأصيل.

لقد تعرض مسيحيو الشرق عبر العصور إلى حملات منظمة تسعى إلى سلخهم من جذرهم الشرقي عبر الدفع بهم إلى الهجرة الطوعية تارة أو إلى التهجير القسري تارة اخرى، غير انهم ظلوا قابضين على الجمر متمسكين بهويتهم المشرقية ومدافعين عنها، وملتصقين بالأرض التي أنجبتهم لينثروا فيها ما جبلوا عليه من محبة وتسامح وسلام.

عبر العصور، لعبت العديد من الشخصيات المسيحية في بلادنا دوراً بارزاً في إذكاء الروح الوطنية والشعور القومي للدفاع عن مصالح الأمة العليا، ضد المطامع الاستعمارية، وهو ما لم يرق لأعداء الأمة، الذين ظل الهدف بالنسبة إليهم إضعاف الكنائس في المشرق وتجريدها من دورها الحقيقي، والغاء طابعها وخصوصيتها الروحية وأصالتها والتصاق أتباعها بأرضهم ومجتمعاتهم.

لذلك فإن المؤامرات الغربية على مسيحيي الشرق بهدف استئصالهم من جذورهم وتهجيرهم هي في الواقع ظلت مؤامرة على مشرقنا لتغيير ملامحه وتفتيت مكوناته وإنهاء خصوصيته التاريخية والحضارية، وهذا ما استوعبه مسيحيو الشرق مبكرا ووقفوا في وجهه بكل قوة حفاظا على أرض الأنبياء والأجداد.

في الواقع، إن مسيحيي بلادنا لهم خصوصية على غيرهم، في انصهارهم المجتمعي والعيش المشترك مع إخوانهم المسلمين، فلا يكاد المرء يفرق بين أي منهما حيث يحترم الواحد منهما الآخر ويقدس خصوصيته الدينية وحريته في التعبد للرب الواحد الأحد الذي نشترك جميعا في عبادته.

وكذا الحال بالنسبة للإخوة المسيحيين في فلسطين الذين ما انفك الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الاستيطان لزرع الفتنة بينهم وبين أشقائهم المسلمين، غير أنهم ظلوا مؤمنين أن الأرض أرضهم ومهد نبيهم مدافعين عنها ومقدمين في سبيلها قوافل الشهداء الذين رووا بتضحياتهم ثرى فلسطين الطاهرة.

المسيحيون في بلادنا قدموا الكثير من الكفاءات التي ساهمت مع أشقائهم المسلمين في بناء الدولة الحضارية التي ننعم بمنجزاتها اليوم، والتي نعيش في أفيائها شركاء حقيقيين لا يميزنا شيء إلا الكفاءة والإقدام في تقديم الخدمة للدولة والمجتمع.

فعبر التاريخ ثمة مبادرات مختلفة ومتنوعة تؤشر إلى مدى الإنصهار المجتمعي بين مختلف مكوناته، ومنه على سبيل الاستشهاد لا الحصر، ما يقوم به الإخوة المسيحيون من مبادرات في رمضان المبارك تجاه إخوانهم المسلمين، وكذا الحال ما يقوم به المسلمون من مبادرات تجاه إخوتهم المسيحيين في أعيادهم ومناسباتهم المقدسة، وفي ما نراه من تزاور مشترك ومن تبادل التهاني بالأعياد والمناسبات الاجتماعية المختلفة والوقوف إلى جانب بعضهما البعض في المحن والشدائد.

إن دور العبادة، المساجد والكنائس، مقدسة لدى الجميع أيما تقديس ويحرص الجميع على إبقائها بيوت عبادة ومناراة علم ومعرفة يشاع من بين جنباتها المحبة والسلام، لذلك فالجميع حريص كل الحرص على إبقائها شاهدا على ما ينعم به الجميع من حرية تعبد وشاهدا على المحبة القائمة على غريزة حب الآخر التي يتمتع بها مجتمعنا ما يميزه عن سائر المجتمعات التي تُعلن فيها حالة الطوارئ إذا ما حلّت مناسبة دينية مقدسة.

اليوم، ونحن نعيش في رحاب الأعياد المقدسة لإخواننا وشركائنا، فحري بنا أن نجعلها مناسبة لإعادة التأكيد على العيش المشترك وعلى المحبة والسلام وقبول الآخر الذي ينعم به مجتمعنا، بمبادرات إنسانية يصل صداها إلى كافة بقاع الأرض للتأكيد على خصوصية مجتمعنا وعلى ما يتميز به من عيش مشترك بين مختلف مكوناته الاجتماعية.

المسيحيون في بلادنا، هم ملح الأرض وجذر متين غائر في أعماق التاريخ، فلهم منا كل الحب والمودة، موصولة بتمنياتنا لهم بأعياد مجيدة في ظلال أردننا الواحد الذي نطمح جميعا أن يظل على أحسن حال وينعم بالأمن والأمان وأن يظل منارة تتطلع الأمم إلى أن تحذو حذوه في إشاعة المحبة والسلام بين مختلف مكوناته الاجتماعية.

بقلم : حسين هزاع المجالي




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد