* دراسة في جينولوجيا العلاقة بين عالم الأفكار وعالم المحسوسات والأشياء..
قسّم فيلسوف العلم في القرن العشرين كارل بوبر(Karl Popper) العالم وفق تفسيره لنظرية العوالم الثلاثة والمعرفة الموضوعية إلى: عالم الأشياء الفيزيقية أو الحالات الفيزيائية (الطبيعة)، عالم حالات الوعي والاستعدادات والحالات الذهنية (التجارب السيكولوجية الواعية وغير الواعية)، وعالم المنتوجات (المحتويات) الموضوعية للفكر؛ أي منتوجات العقل الإنساني. إن هذه العوالم الثلاثة تدخل في علاقة تفاعل متبادل وهي مرتبطة في إطار علائقي لا ينفصل. ويمكنني هنا الاستفادة من هذا الطرح البوبري وإسقاطه على الواقع السياسي الأرني مع بعض التطويرات على الفكرة المركزية.
وبمقاربة تبسيطية وعلاقته بموضوعنا، نقول إن دولة د. الرزاز يتفاعل كثيرا بإجادة واضحة بين العالم الأول والثاني، وأيضا أنتج في العالم الثالث على المستوى الثقافي والأدبي، بينما يواجه صعوبات واضحة في إنتاج ما هو أبعد من النطاق الثقافي – الفكري في العالم الثالث، ليتجاوزه إلى إدارة المؤسسات بصرامة وفق عقل سياسي، حتى تكون الإدارة السياسية للدولة أكثر ضبطاً، فالمواطنين اليوم في أدبيات أنظمة الحكم السياسية على اختلافها، لا يهتمون ولا حتى لديهم استعداد لفهم أن الانتقال بين هذه العوالم الثلاثة مسألة ليست سهلة، لذلك فلديهم إصرار على تلمس الواقع دون الاكتراث نهائيا، للسلسلة الطويلة من حيثيات الوصول إلى عالم المحسوسات والأشياء.هم يكتفون ويبحثون عن النتائج فقط.
قبل أن يكون الرزاز رئيسا للوزراء، كان يستمتع بالضرورة برفاهية العيش مع الأفكار ومحاولات لفك أعماق وأسرار العالم الفيزيقي – المادي بكل تجلياته، ويقدم العديد من نتاجات الأفكار على مستوى الثقافة، بينما عندما أصبح رئيسا للوزراء، خسر هذه الرفاهية التي أثقلت حكما كاهل عالمها الثاني وعلاقته مع عالمه الأول، والسبب ببساطة أن ترجمة ما يحمله وما ينادي به قد ارتطم بمتغيرات عديدة أعاقت إحداث الفكرة لأثر في العالم الثالث وهو العالم الموضوعي الكاشف للعالمين الثاني بتفاعله مع العالم الأول.
لقد بدأت رحلة التنازع بين عوالمه الثلاثة تتضح مع فترة بسيطة من توليه المنصب، بسبب تجاذبات السلطة السياسية وإرهاصتها المريرة، فالواقع المحسوس يترنح ويتهاوى منذ زمن، أتعب معه العقل السياسي للدولة – المُنهك أصلاً - وأفقده الكثير من ملامحه التي تشوّهت مع الزمن، فالمواطن لم يعد يعرف كيف تُدار السياسة؟ ومن هي النخبة؟ وما هي الأولويات العامة؟ وما هي الأهداف ؟ ........ الأمر الذي أطلق اللاوعي من جدران النفس، ووفر لها البيئة الأمثل لدى المواطن الأردني وأصبح يسيطر على وعيه وتتصدر المشهد، وشكًل عِناق وعيه وترسباته النفسية نتيجة تراكمية طويلة من الزمن حالة أفقدته صبره - وهو محق بالمطلق في ذلك - وعدم تحمله، وأوجدت كل مظاهر اللامعقول في المشهد الأردني.
إن الرزاز واجه إرثا ثقيلا جدا، وكان أمام تحدي كبير، ربما لو أحسن إدارة الأحداث لحولها إلى فرصة تاريخية لم تشهدها الحياة السياسية الأردنية عبر عقود من الزمن، لو أنه منذ بداية تشكيل الحكومة تمسك بقراره في اختيار طاقمه الوزاري، وحدد بدقة العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة، وساهم في تحديد أوزان تدخلاتها في صناعة القرار السياسي، وخاطب الناس بحقائق الإرث السياسي والاقتصادي الذي يحمله وبصورة واضحة ولا يترك مجالا للتأويل، وبدأ باجتثاث الفساد والمفسدين دون هوادة، انطلاقا من مبدأ "أفعال لا أقول" ، وصاغ استراتيجية قابلة للتطبيق في استعادة الثقة المفقودة قبل توليه السلطة، وهي القضية الحساسة التي تُسهّل عملية الحكم. واستعان في التعيينات على مبدأ الجدارة والاستحقاق، انطلاقا من أن تشكيل النخب القائم على العلاقات الشخصية والمصلحية تزيد تأزيم المشهد السياسي برمته. فالمواطن يرنو للتجديد والتغيير ولم يعد يهتم لا بالخطابات والتصريحات والعلاقات العامة والتقاط الصور إعلاميا، هو يريد رئيسا للوزراء لا يترك مساحة لمؤسسات أخرى تمارس أدوارا منوطة بالوزارة فحسب، وتمارس الافتئات على صلاحيات وسلطاته.
إن كل ما سبق، أرهق عالم الإنتاج، وحتى العالم الفيزيقي والعالم العقلي، لأن التحاف مواطنين الشوارع والسير عبر مئات الكيلوميترات واتخاذ مواقع التواصل الاجتماعي كقناة اتصال شعبية سحبت إلى حد كبير البساط من قنوات الاتصال الحكومية وانتشار السخرية السياسية على نطاق واسع وصراع الوثائق المسربة، يومىء أن ثمة اختلال في الجسد الحكومي وربما يصل أو وصل إلى حالة تصارع بين أطراف في الحكومة، ووفق منطق السياسة، لعلى هنالك بعضا من أعضاء الحكومة يريدون عدم النجاح للرزاز، وإلا ما الذي يفسر سياسيا عدوى الانتشار الكبير للوثائق وتسريبها دون اكتراث للمسؤولية، لكي تظهر الأمور وكانها خرجت عن السيطرة، وفقدت عقالها؟.
إن ما سبق لربما، أوجد بيئة سياسية دفعت الرزاز إلى حالة التردد المستمر، فهو يتقدم خطوة للأمام وخطوتين للخلف في المشهد السياسي، فليس في أدبيات العمل السياسي، إصدار القرارات والتراجع عنها، لأن ذلك يُضعف الحكومة، فإما اتخاذ قرار والدفاع عنه، وإلا الامتناع عن اتخاذه من البداية، وهذا مؤشر على ضعف في بنية العقل السياسي للحكومة.
وعلى هدي ما تقدم، فإن المزاج الشعبي العام الحاد، وفقدان الثقة في المؤسسات، وتعدد الجهات التي تنافس الوزارة في العلاقة مع المواطن، وتراخي الوزارة في استرجاع ولايتها العامة بالمعنى الدقيق دستوريا وسياسيا، والفجوة التي تتسع يوما بعد يوم بين الأقوال والأفعال، تهدد بشكل مؤثر بنيان الحالة السياسية الراهنة، والخشية أن تصدع الجدار يصل إلى مرحلة - إن لم يكن قد وصل بالفعل - تجعل الحياة السياسية قد فقدت لونها وبريقها، وهو ما يفسر كل المظاهر التي نراها اليوم من فقدان الاحترام لمؤسسات الدولة، وعدم الاكتراث حتى بمنصب رئيس الوزراء ولا أعضاء البرلمان ولا ......
وتحليل ذلك يعود إلى أساس الأزمة، وهي أن الدولة لا تزال في أبنيتها وعملياتها وحتى قيمها لم تترسخ على أسس المؤسسية الرصينة، ولم تتمتع بهندسة سياسية صارمة تؤسس لحدود دقيقة للحركة التفاعلية لمؤسسات الدولة وأبنيتها المختلفة، فالافتئات والتعدي على حدود السلطات لا يزال ماثلا في المشهد، ومحركات العمل السياسي وهي الأحزاب لا تزال تستجدي الماضي وتمسرح الحاضر وتتهرب من المستقبل، والنقابات تصعد إلى المشهد لتحتل مكان الأحزاب ووفق بوصلة المصلحة. حتى القيم السائدة باتت معول هدم وليس بناء.
إن هذا المشهد الفيزيقي قد اتعب الرزاز وفق مستويات إدراك عالمه الثاني الذي لم يعد يحتملها (وهو القائل أنه في مهمة انتحارية)، ونتيجة لذلك فإن عالم المنتوجات لم يحمل في ثناياه الجديد، فقد أوجد فجوة لتحويل أفكاره إلى إحداث أثر حقيقي حتى اللحظة، ومن المحتمل أن يفسر عدم إدراكه للعديد من القرارات التي أثارت سخط المواطنين فيالفترة الأخيرة.
إن الفرصة المواتية هي تحقيق الانسجام والتناغم بين العوالم الثلاثة، فالفرصة التي جاءت في البداية لم تعد قائمة، فقد رفعت مع قدوم دولة الرزاز سقف توقعات المواطنين، وفتح الأمل بابه لإحداث التغييرات المطلوبة،إلا أنها تبعثرت وتراجعت. والآن نقول أن ثمة فرصة ربما أخيرة: فهل ينجح الرزاز في عالم المحسوسات والأشياء؛ أي عالم الانتاج السياسي الحقيقي بعيدا عن عالم الأفكار فحسب، لأنه إن فعل فذلك سيحدث تغيرات تكتونية في العالم الفيزيقي الأول. هل يستطيع مواجه المد العاتي للبيئة السياسية القائمة بكل متغيراتها؟ هل يمكن أن يستعيد هيبة المؤسسات؟ هل يمكن أن يفرض هيبة الوزارة كلاعب جوهري واساس في العملية السياسية؟ هل يمكن أن يقنع المواطنين بأنه قادر على التغيير؟ هل يمكن ان يستعيد ثقتهم المتشظية من جديد؟ هل يمكن أن يعيد ترتيب الاولويات الوطنية ويضع رؤية؟ هل يمكن أن يقنع المواطنين أنه صانع قرار وليس مجرد هيئة تنفيذية تتلقى التعليمات؟
كل ما سبق من تحديات أمام رئيس الوزراء الحالي والقادم أيضاً، (فتغيير التشكيلة الحكومية أو بعضها ليس حلاّ، بل مزيدا من الاضطراب في العمل السياسي)، فالتغيير الحقيقي يكمن في الأبنية وعملياتها والقيم الحاكمة لها. فهل يمكن أن يستفيد من الفرص العديدة التي أطالت عمر وزارته، أم أن الأمور ستبقى كما هي؟ الإجابة لدى العالم الثاني وهو عالم العقل لدى للرزاز وقدرته على تطوير البيئة الفيزيقية وهي العالم الأول لحساب عالم المنتوجات وهو العالم الثالث ، والذي سيرتفع حسب القدرة على التفاعل بين العالم المادي بثقله وقسوته وعالم العقل الذي قد يبدأ بالبحث عن فترة استراحة ليتمكن من استعادته من جديد.
د.خالد العدوان / استاذ النظم السياسية والسياسة المقارنة في جامعة اليرموك-
قسّم فيلسوف العلم في القرن العشرين كارل بوبر(Karl Popper) العالم وفق تفسيره لنظرية العوالم الثلاثة والمعرفة الموضوعية إلى: عالم الأشياء الفيزيقية أو الحالات الفيزيائية (الطبيعة)، عالم حالات الوعي والاستعدادات والحالات الذهنية (التجارب السيكولوجية الواعية وغير الواعية)، وعالم المنتوجات (المحتويات) الموضوعية للفكر؛ أي منتوجات العقل الإنساني. إن هذه العوالم الثلاثة تدخل في علاقة تفاعل متبادل وهي مرتبطة في إطار علائقي لا ينفصل. ويمكنني هنا الاستفادة من هذا الطرح البوبري وإسقاطه على الواقع السياسي الأرني مع بعض التطويرات على الفكرة المركزية.
وبمقاربة تبسيطية وعلاقته بموضوعنا، نقول إن دولة د. الرزاز يتفاعل كثيرا بإجادة واضحة بين العالم الأول والثاني، وأيضا أنتج في العالم الثالث على المستوى الثقافي والأدبي، بينما يواجه صعوبات واضحة في إنتاج ما هو أبعد من النطاق الثقافي – الفكري في العالم الثالث، ليتجاوزه إلى إدارة المؤسسات بصرامة وفق عقل سياسي، حتى تكون الإدارة السياسية للدولة أكثر ضبطاً، فالمواطنين اليوم في أدبيات أنظمة الحكم السياسية على اختلافها، لا يهتمون ولا حتى لديهم استعداد لفهم أن الانتقال بين هذه العوالم الثلاثة مسألة ليست سهلة، لذلك فلديهم إصرار على تلمس الواقع دون الاكتراث نهائيا، للسلسلة الطويلة من حيثيات الوصول إلى عالم المحسوسات والأشياء.هم يكتفون ويبحثون عن النتائج فقط.
قبل أن يكون الرزاز رئيسا للوزراء، كان يستمتع بالضرورة برفاهية العيش مع الأفكار ومحاولات لفك أعماق وأسرار العالم الفيزيقي – المادي بكل تجلياته، ويقدم العديد من نتاجات الأفكار على مستوى الثقافة، بينما عندما أصبح رئيسا للوزراء، خسر هذه الرفاهية التي أثقلت حكما كاهل عالمها الثاني وعلاقته مع عالمه الأول، والسبب ببساطة أن ترجمة ما يحمله وما ينادي به قد ارتطم بمتغيرات عديدة أعاقت إحداث الفكرة لأثر في العالم الثالث وهو العالم الموضوعي الكاشف للعالمين الثاني بتفاعله مع العالم الأول.
لقد بدأت رحلة التنازع بين عوالمه الثلاثة تتضح مع فترة بسيطة من توليه المنصب، بسبب تجاذبات السلطة السياسية وإرهاصتها المريرة، فالواقع المحسوس يترنح ويتهاوى منذ زمن، أتعب معه العقل السياسي للدولة – المُنهك أصلاً - وأفقده الكثير من ملامحه التي تشوّهت مع الزمن، فالمواطن لم يعد يعرف كيف تُدار السياسة؟ ومن هي النخبة؟ وما هي الأولويات العامة؟ وما هي الأهداف ؟ ........ الأمر الذي أطلق اللاوعي من جدران النفس، ووفر لها البيئة الأمثل لدى المواطن الأردني وأصبح يسيطر على وعيه وتتصدر المشهد، وشكًل عِناق وعيه وترسباته النفسية نتيجة تراكمية طويلة من الزمن حالة أفقدته صبره - وهو محق بالمطلق في ذلك - وعدم تحمله، وأوجدت كل مظاهر اللامعقول في المشهد الأردني.
إن الرزاز واجه إرثا ثقيلا جدا، وكان أمام تحدي كبير، ربما لو أحسن إدارة الأحداث لحولها إلى فرصة تاريخية لم تشهدها الحياة السياسية الأردنية عبر عقود من الزمن، لو أنه منذ بداية تشكيل الحكومة تمسك بقراره في اختيار طاقمه الوزاري، وحدد بدقة العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة، وساهم في تحديد أوزان تدخلاتها في صناعة القرار السياسي، وخاطب الناس بحقائق الإرث السياسي والاقتصادي الذي يحمله وبصورة واضحة ولا يترك مجالا للتأويل، وبدأ باجتثاث الفساد والمفسدين دون هوادة، انطلاقا من مبدأ "أفعال لا أقول" ، وصاغ استراتيجية قابلة للتطبيق في استعادة الثقة المفقودة قبل توليه السلطة، وهي القضية الحساسة التي تُسهّل عملية الحكم. واستعان في التعيينات على مبدأ الجدارة والاستحقاق، انطلاقا من أن تشكيل النخب القائم على العلاقات الشخصية والمصلحية تزيد تأزيم المشهد السياسي برمته. فالمواطن يرنو للتجديد والتغيير ولم يعد يهتم لا بالخطابات والتصريحات والعلاقات العامة والتقاط الصور إعلاميا، هو يريد رئيسا للوزراء لا يترك مساحة لمؤسسات أخرى تمارس أدوارا منوطة بالوزارة فحسب، وتمارس الافتئات على صلاحيات وسلطاته.
إن كل ما سبق، أرهق عالم الإنتاج، وحتى العالم الفيزيقي والعالم العقلي، لأن التحاف مواطنين الشوارع والسير عبر مئات الكيلوميترات واتخاذ مواقع التواصل الاجتماعي كقناة اتصال شعبية سحبت إلى حد كبير البساط من قنوات الاتصال الحكومية وانتشار السخرية السياسية على نطاق واسع وصراع الوثائق المسربة، يومىء أن ثمة اختلال في الجسد الحكومي وربما يصل أو وصل إلى حالة تصارع بين أطراف في الحكومة، ووفق منطق السياسة، لعلى هنالك بعضا من أعضاء الحكومة يريدون عدم النجاح للرزاز، وإلا ما الذي يفسر سياسيا عدوى الانتشار الكبير للوثائق وتسريبها دون اكتراث للمسؤولية، لكي تظهر الأمور وكانها خرجت عن السيطرة، وفقدت عقالها؟.
إن ما سبق لربما، أوجد بيئة سياسية دفعت الرزاز إلى حالة التردد المستمر، فهو يتقدم خطوة للأمام وخطوتين للخلف في المشهد السياسي، فليس في أدبيات العمل السياسي، إصدار القرارات والتراجع عنها، لأن ذلك يُضعف الحكومة، فإما اتخاذ قرار والدفاع عنه، وإلا الامتناع عن اتخاذه من البداية، وهذا مؤشر على ضعف في بنية العقل السياسي للحكومة.
وعلى هدي ما تقدم، فإن المزاج الشعبي العام الحاد، وفقدان الثقة في المؤسسات، وتعدد الجهات التي تنافس الوزارة في العلاقة مع المواطن، وتراخي الوزارة في استرجاع ولايتها العامة بالمعنى الدقيق دستوريا وسياسيا، والفجوة التي تتسع يوما بعد يوم بين الأقوال والأفعال، تهدد بشكل مؤثر بنيان الحالة السياسية الراهنة، والخشية أن تصدع الجدار يصل إلى مرحلة - إن لم يكن قد وصل بالفعل - تجعل الحياة السياسية قد فقدت لونها وبريقها، وهو ما يفسر كل المظاهر التي نراها اليوم من فقدان الاحترام لمؤسسات الدولة، وعدم الاكتراث حتى بمنصب رئيس الوزراء ولا أعضاء البرلمان ولا ......
وتحليل ذلك يعود إلى أساس الأزمة، وهي أن الدولة لا تزال في أبنيتها وعملياتها وحتى قيمها لم تترسخ على أسس المؤسسية الرصينة، ولم تتمتع بهندسة سياسية صارمة تؤسس لحدود دقيقة للحركة التفاعلية لمؤسسات الدولة وأبنيتها المختلفة، فالافتئات والتعدي على حدود السلطات لا يزال ماثلا في المشهد، ومحركات العمل السياسي وهي الأحزاب لا تزال تستجدي الماضي وتمسرح الحاضر وتتهرب من المستقبل، والنقابات تصعد إلى المشهد لتحتل مكان الأحزاب ووفق بوصلة المصلحة. حتى القيم السائدة باتت معول هدم وليس بناء.
إن هذا المشهد الفيزيقي قد اتعب الرزاز وفق مستويات إدراك عالمه الثاني الذي لم يعد يحتملها (وهو القائل أنه في مهمة انتحارية)، ونتيجة لذلك فإن عالم المنتوجات لم يحمل في ثناياه الجديد، فقد أوجد فجوة لتحويل أفكاره إلى إحداث أثر حقيقي حتى اللحظة، ومن المحتمل أن يفسر عدم إدراكه للعديد من القرارات التي أثارت سخط المواطنين فيالفترة الأخيرة.
إن الفرصة المواتية هي تحقيق الانسجام والتناغم بين العوالم الثلاثة، فالفرصة التي جاءت في البداية لم تعد قائمة، فقد رفعت مع قدوم دولة الرزاز سقف توقعات المواطنين، وفتح الأمل بابه لإحداث التغييرات المطلوبة،إلا أنها تبعثرت وتراجعت. والآن نقول أن ثمة فرصة ربما أخيرة: فهل ينجح الرزاز في عالم المحسوسات والأشياء؛ أي عالم الانتاج السياسي الحقيقي بعيدا عن عالم الأفكار فحسب، لأنه إن فعل فذلك سيحدث تغيرات تكتونية في العالم الفيزيقي الأول. هل يستطيع مواجه المد العاتي للبيئة السياسية القائمة بكل متغيراتها؟ هل يمكن أن يستعيد هيبة المؤسسات؟ هل يمكن أن يفرض هيبة الوزارة كلاعب جوهري واساس في العملية السياسية؟ هل يمكن أن يقنع المواطنين بأنه قادر على التغيير؟ هل يمكن ان يستعيد ثقتهم المتشظية من جديد؟ هل يمكن أن يعيد ترتيب الاولويات الوطنية ويضع رؤية؟ هل يمكن أن يقنع المواطنين أنه صانع قرار وليس مجرد هيئة تنفيذية تتلقى التعليمات؟
كل ما سبق من تحديات أمام رئيس الوزراء الحالي والقادم أيضاً، (فتغيير التشكيلة الحكومية أو بعضها ليس حلاّ، بل مزيدا من الاضطراب في العمل السياسي)، فالتغيير الحقيقي يكمن في الأبنية وعملياتها والقيم الحاكمة لها. فهل يمكن أن يستفيد من الفرص العديدة التي أطالت عمر وزارته، أم أن الأمور ستبقى كما هي؟ الإجابة لدى العالم الثاني وهو عالم العقل لدى للرزاز وقدرته على تطوير البيئة الفيزيقية وهي العالم الأول لحساب عالم المنتوجات وهو العالم الثالث ، والذي سيرتفع حسب القدرة على التفاعل بين العالم المادي بثقله وقسوته وعالم العقل الذي قد يبدأ بالبحث عن فترة استراحة ليتمكن من استعادته من جديد.
د.خالد العدوان / استاذ النظم السياسية والسياسة المقارنة في جامعة اليرموك-
تعليقات القراء
لا يوجد تعليقات