" حاذقون في الأرقام فاشلون في الحياة " بقلم : عمر ضمرة



لو سألنا أي مواطن عربي من المحيط الذي لم يعد هادراً إلى الخليج الذي يسابق الزمن للتطبيع ، كم عدد السنوات التي مرت حتى الآن منذ نكبة فلسطين وتهجير الفلسطينيين في الشتات ، فانه لن يجد كبير عناء في ذكر الرقم 72 عاماً ، وقد يستخف من هكذا سؤال بسيط على العقلية العربية .
إلا أننا ، لو حاولنا سؤال أي مواطن عربي عن الطريقة التي يمكن بها استرداد هذه الأرض التي تم احتلالها وإعادتها إلى الحضن العربي ، فإننا نكون كمن يلقي معادلة مستعصية على أية حلول ، أو أشبه بلغز قديم ، قدم الجرح الذي تنكأه ذكرى النكبة كل عام .
لقد اكتسب العرب مهارة كبيرة في حساب المصائب والكوارث والنكبات ، على حساب مشاعرهم الوطنية والقومية ، بل وحتى الإنسانية ، فإنهم يحفظون عدد الأسرى الذين يئنون في سجون الكيان الصهيوني ، ولا يغيب عن بالهم عدد المخيمات الفلسطينية في الداخل والخارج ، ويعددون عدد الحروب والنكبات والنكسات وتواريخ الإجتياحات والإحتلالات المتوالية للمدن والقرى الفلسطينية .
لقد تحولنا إلى مجرد آلات رقمية حاسبة ، تبدأ يومها بتعداد أرقام الشهداء ، وأعداد الأسرى الذي يزيدون يوما اثر آخر ، فأصبحت جراحنا مجرد أرقام في ذاكرة حاذقة تترقب الأرقام على الفضائيات والمواقع الإخبارية التي تعرض صور التنكيل والإهانات المتوالية ، في حين أصبحت عقولنا خاوية ، وفاقدة لأي معنى للكرامة المهدورة على أرض الواقع .
من المؤسف أن نتعامل مع الإنسان على أنه رقم ، يزيد أو ينقص ، في جدول الحسابات الخاصة بنشرات الأخبار والمراكز البحثية ومخططات الشركات الكبرى الهادفة لتكديس الأموال " أرقام " ، بصرف النظر عن شرعية تلك الوسائل التي تحقق كل تلك الطموحات الشيطانية للفوز في لعبة الأرقام .
ان الدخول في لعبة الأرقام ، شبيه بالدخول إلى متاهة مغلقة ، وإحكام المتاريس على التفكير والمشاعر المتأججة ، والتي تبدأ بالخفوت ، كلما دخلنا متاهة الأرقام والحسابات الوهمية ، لأن هذه اللعبة القذرة ، لن ترجع إلينا حقاً أضعناه ، وتصورنا في لحظة حمقاء، أننا يمكن استرداده على طاولة مفاوضات يلفها عدد من ضحكات أباطرة السياسة والمال .
ان لعبة الأرقام لن تجعلنا إلا مجرد أصفار على الشمال ، بينما خارطة التحولات الإقليمية والدولية يتم ترسيمها وإعادة صياغتها ، وتزيد في ترسيخ فكرة الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها في ما تبقى من خلايا عصبية ، ما زالت قادرة على التحليل والاستنتاج ، وتحاول النهوض من سبات العتمة الذي فرضناه على إرادتنا المسلوبة بخاطرنا .
هل كان المناضل الراحل نيلسون مانديلا وغيره من الوطنيين في جنوب افريقيا منشغلين بحساب عدد سنوات نظام الفصل العنصري " الأبارتهايد " منذ عام 1948 وحتى 1994 ، أم أنهم كانوا يمارسون فعلا نضالياً ، وفي سباق مع دقات ساعة الزمن لإنهاء الفصل العنصري وتحصيل الحقوق الوطنية ؟ .
وهل كان الزعيم الهندي المهاتما غاندي منشغلا بحساب عدد سنوات الاحتلال البريطاني لوطنه (1869 - 1948) ، أم أنه وغيره من الوطنيين الشرفاء في الهند ، كرسوا جل وقتهم لمقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل وانتهاج سياسة المقاومة السلمية .
إننا ، وللأسف الشديد ، انشغلنا بتعداد سنوات النكبة ، وبتنا نرتب لها الاحتفالات بداعي إحياء الذكرى ، والتأسف على ما ضاع ، وكأنه قدر لا يد لنا فيه ، أو لا نستطيع تغييره ، وإذا آمنا بحتمية عودة الحق ، فإننا نحيل ذلك إلى واقع مؤجل ، يستند إلى إسقاطات على نصوص دينية نحولها أيضا إلى أرقام في مخيالنا الخصب .
إننا مأسورون بالأرقام ، وبالاحتفالات التي تحيي ذكرى نكبة فلسطين ، و التي أشغلتنا عنها هذا العام ، جائحة فيروس كورونا ، التي أدخلتنا في لعبة أرقام جديدة ، وبتنا نحصي عدد الإصابات اليومية والوفيات من شرق الكرة الأرضية وحتى غربها ، وأصبحنا منغمسين في متاهة الأرقام ، التي تخدر عقولنا وتجمد عواطفنا ، متصورين أننا بذلك نمارس فعلا من أفعال الحياة ، في حين أننا نسطر مع كل ثانية نحسبها على جدار التاريخ مرثية موتنا المؤجل .




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة عمانيات الإخبارية علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق :
تحديث الرمز
أكتب الرمز :