صدر في لندن عن دار النشر Ekutub بحلة قشيبة كتاب جديد بعنوان 'دور الجيش العراقي في حرب فلسطين 1948-1949'، للدكتور محمد عقل، وهو دراسة علمية وثائقية، من جزأين كبيرين، من القطع المتوسط. قضى المؤلف السنين الطوال في جمع الوثائق من الأرشيفات وتسجيل المرويات الشفوية في منطقة المثلث والاطلاع على المذكرات والمصادر التاريخية المطبوعة والمخطوطة.
تكشف لنا تلك الوثائق والمذكرات والمصادر التاريخية بأنّ العراق كان محجًا وقبلة للمثقفين ثم السياسيين والمناضلين الفلسطينيين قبل أي بلد آخر نظرًا للسياسة القومية التي اتبعها هذا البلد منذ تأسيس كيانه الهاشمي عام 1921. في سير بعض هؤلاء المثقفين ما يدل على أن العراق لم يكن فقط مصدر رزق لهم، وإنما كان حاضنة لفكرهم النضالي في سبيل استقلال فلسطين. في أيلول 1939 وصل إلى العراق المفتي الحاج أمين الحسيني ومعه عدد كبير من المجاهدين والمناضلين، ورغم أن الوصي عبد الإله ونوري السعيد قدما له معونة مالية، ووافقا على دخوله إلى العراق، إلا أن المفتي والفلسطينيين المتواجدين في العراق ساندوا ثورة رشيد عالي الكيلاني في سنة 1941، ودعموها. لقد أدت هذه الثورة إلى هروب الوصي عبد الإله ونوري السعيد وغيرهم ممن كانوا يؤيدون بريطانيا في حربها ضد ألمانيا. في شهر أيار سنة 1941 نزلت القوات البريطانية في ميناء البصرة وأخذت تزحف نحو بغداد. في نفس الوقت اجتازت الحدود قوات من شرق الأردن، والتقى الجمعان الأمر الذي مكنهم من القضاء على الثورة المناهضة للإنكليز. لم يكن الموقف الجديد في صالح القضية الفلسطينية'.
لكيلا يتدخل الجيش مرة أخرى في السياسة جرى خفض عدده من 40,000 جندي إلى 20,000 جندي. بناء على توصية من البعثة العسكرية البريطانية أصبح الجيش في عام 1944 مكونًا من ثلاث فرق بدلاً من أربع. كما أن بريطانيا امتنعت عن تزويد هذا الجيش بأسلحة جديدة واكتفت بإمداده بذخائر محدودة ومعدات قديمة. معظم القوة الجوية العراقية دُمّرت وهي رابضة في المطارات. لقد تدهورت مكانة الجيش وزالت هيبته، وهرب ضباطه المهمون إلى خارج البلاد، واعتقل بعضهم ونفي آخرون بسبب قربهم من المربع الذهبي. لقد انتهت فترة تعاظم الجيش، وانتهت هيمنته على الدولة. منذ تلك الفترة حرص الوصي على عرش العراق، عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد على انتخاب رئيس أركان الجيش وكبار الضباط بدقة متناهية.
حتى عام 1947 لم يجر تطوير كبير للجيش. بدأ بتنظيم القوة الجوية من جديد حيث اشتريت طائرات من نوع أنسون، وهي قديمة من مخلفات الجيش البريطاني ومصنوعة من الخشب، وتتفسخ في الجو، كما اقتنى العراق مدرعات من نوع ديملر، ولكن قوة الجيش العراقي لم تتحسن. بالمقابل جرى تطوير قوات الشرطة وزيادة عدد رجالها من 10,500 شرطي في عام 1939 إلى 19,000 شرطي في عام 1945. في إطار الشرطة أُنشئت قوة سيارة أُنيطت بها مهام أمنية كانت سابقًا من اختصاص الجيش، ولكن حتى في الشرطة عانى المنتسبون من انخفاض المعنويات والتراخي وعدم الاستعداد.
في شهر كانون الثاني 1948 كانت الوثبة العارمة التي أدّت إلى رفض البرلمان العراقي التوقيع على اتفاقية بورتسموث ما أدى إلى وقف توريد السلاح من بريطانيا إلى العراق. من الواضح أن الجيش العراقي لم يكن معدًا للحرب كما يجب وكانت تنقصه الذخائر والأعتدة وقطع الغيار. في 29/5/1948 أصدر مجلس الأمن قرارًا بحظر توريد السلاح إلى الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط فسارعت بريطانيا إلى تبني القرار ومنعت نهائيًا وصول حتى القذائف. لقد اضطرت المدفعية العراقية بعد الهدنة الأولى في فلسطين إلى استعمال قذائف مصنوعة عام 1916 التي كانت تنبعج ولا تنفجر.
ولم ترصد في ميزانيات 1947 و 1948 مبالغ غير اعتيادية للجيش. كما لم ترصد عام 1948 ميزانية حرب للنهوض بأعباء نفقات القتال، أي لم يجر تسخير كل موارد الدولة من أجل النهوض بأعباء الحرب.
بعد قرار التقسيم قام الفريق الركن إسماعيل صفوت رئيس اللجنة العسكرية المنبثقة عن جامعة الدول العربية والعميد الركن طه الهاشمي المفتش العام للمتطوعين العرب وكلاهما من العراق بتأسيس جيش الإنقاذ. أوفى العراق بجميع التزاماته نحو هذا الجيش من أسلحة وعتاد. من أفواجه كان فوج الحسين (فوج العراق)، بينما كان قادة أفواج أخرى عراقيين مثل مدلول عباس قائد فوج حطين...
دخل الجيش العراقي الحرب من أجل تحرير فلسطين. عند بدء الحرب لم تستدع قوات الاحتياط كما أن الملاكات كانت ناقصة وغير مكتملة بسبب تخلف وهروب وتسيب عدد لا بأس به من المجندين.
لم تقم دائرة أركان الجيش العراقي بإعداد خطة للحرب. لم تكن هناك لائحة حرب، ولا خطة تحرك في دائرة الأركان العراقية تعالج اشتراك الجيش العراقي في القتال في فلسطين.
لم يجر إعداد الجنود نفسيًا لخوض الحرب. هؤلاء لم يعرفوا طبيعة الأماكن التي يسعون إلى احتلالها. ناهيك عن أنه كانت تنقصهم الخرائط. جرت الحياة في بغداد كالمعتاد، وبقيت دور السينما تعرض الأفلام وكأن البلاد ليست مشاركة في حرب.
في فلسطين وجد الجيش العراقي صعوبة في تأمين التموين لجيشه إذ بلغت المسافة بين حيفا وبغداد ما يقارب ألف كيلو متر. بينما بلغ طول الجبهة التي أوكل بالدفاع عنها 160 كيلو متر.
امتاز الجيش العراقي بالشجاعة والبسالة. وقد حظي سلاح المدفعية بدرجة عالية في دقة إصابة الأهداف وتصويب النيران.
خاض الجيش العراقي في فلسطين عدة معارك، أهمها معركة جنين الأولى التي أثبت فيها القائد الملهم المقدم الركن عمر علي وجنوده قدرة فائقة على المناورة والانقضاض على العدو، فكبدوه خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وهزموه شر هزيمة فرفعوا رؤوس العرب جميعًا. ما يزال أبناء فلسطين يلهجون باسم هذا القائد وجنود فوجه الثاني من اللواء الخامس الذي كان من مرتبات جحفل الملكة عالية (اللواء الرابع)
خلال مكوثه في فلسطين سيطر الجيش العراقي على المناضلين الفلسطينيين في القرى والمدن الواقعة بالقرب من الخطوط الأمامية، وراح يدربهم على القتال، وينظمهم في فصائل ثم بأفواج وهي: فوج الكرمل، فوج خالد بن الوليد، فوج صلاح الدين وفوج الشعراوية، ثم أنشأ لهم لواءين هما الثاني والسادس. وهو بذلك يكون الوحيد من بين الجيوش العربية الذي استغل العنصر الفلسطيني في الدفاع عن بلاده. تم ذلك بموافقة جامعة الدول العربية وعلى نفقتها. لقد أثبت المناضلون الفلسطينيون قدرة جيدة على القتال في معركة جنين الثانية حيث قاتلوا إلى جانب الجيش العراقي وحرروا سبع قرى عربية مهجرة. في بحثنا هذا استعرضنا عملية تجنيد المناضلين الفلسطينيين بالتفصيل وما بذله الجيش العراقي في هذا المضمار، وهو موضوع لم يسبق لباحث أن تطرق إليه. كانت إسرائيل تشبه نفسها بداوود الذي قتل جالوت، أي أن جيشها قليل العدد تغلب على جيوش سبع دول عربية، والبحث العلمي يكشف إنه في 15 أيار 1948 كان مجموع ما اشترك من جميع الدول العربية 21,500 جندي مقابل 65,000 جندي إسرائيلي. يضاف إلى العدد الأخير 3,000 مقاتل أجنبي غير يهودي من خارج فلسطين (قوات ماحل)، و 22,000 مقاتل يهودي ممن نجوا من الكارثة وانضموا بعد ذلك إلى صفوف الجيش الإسرائيلي (قوات جاحل). ناهيك عن الطائرات والأسلحة التي وصلت عن طريق تشيكوسلوفكيا والولايات المتحدة. فلا عجب إن قلنا إنّ إي دولة عربية بمفردها لا تستطيع الصمود!
صدر في لندن عن دار النشر Ekutub بحلة قشيبة كتاب جديد بعنوان 'دور الجيش العراقي في حرب فلسطين 1948-1949'، للدكتور محمد عقل، وهو دراسة علمية وثائقية، من جزأين كبيرين، من القطع المتوسط. قضى المؤلف السنين الطوال في جمع الوثائق من الأرشيفات وتسجيل المرويات الشفوية في منطقة المثلث والاطلاع على المذكرات والمصادر التاريخية المطبوعة والمخطوطة.
تكشف لنا تلك الوثائق والمذكرات والمصادر التاريخية بأنّ العراق كان محجًا وقبلة للمثقفين ثم السياسيين والمناضلين الفلسطينيين قبل أي بلد آخر نظرًا للسياسة القومية التي اتبعها هذا البلد منذ تأسيس كيانه الهاشمي عام 1921. في سير بعض هؤلاء المثقفين ما يدل على أن العراق لم يكن فقط مصدر رزق لهم، وإنما كان حاضنة لفكرهم النضالي في سبيل استقلال فلسطين. في أيلول 1939 وصل إلى العراق المفتي الحاج أمين الحسيني ومعه عدد كبير من المجاهدين والمناضلين، ورغم أن الوصي عبد الإله ونوري السعيد قدما له معونة مالية، ووافقا على دخوله إلى العراق، إلا أن المفتي والفلسطينيين المتواجدين في العراق ساندوا ثورة رشيد عالي الكيلاني في سنة 1941، ودعموها. لقد أدت هذه الثورة إلى هروب الوصي عبد الإله ونوري السعيد وغيرهم ممن كانوا يؤيدون بريطانيا في حربها ضد ألمانيا. في شهر أيار سنة 1941 نزلت القوات البريطانية في ميناء البصرة وأخذت تزحف نحو بغداد. في نفس الوقت اجتازت الحدود قوات من شرق الأردن، والتقى الجمعان الأمر الذي مكنهم من القضاء على الثورة المناهضة للإنكليز. لم يكن الموقف الجديد في صالح القضية الفلسطينية'.
لكيلا يتدخل الجيش مرة أخرى في السياسة جرى خفض عدده من 40,000 جندي إلى 20,000 جندي. بناء على توصية من البعثة العسكرية البريطانية أصبح الجيش في عام 1944 مكونًا من ثلاث فرق بدلاً من أربع. كما أن بريطانيا امتنعت عن تزويد هذا الجيش بأسلحة جديدة واكتفت بإمداده بذخائر محدودة ومعدات قديمة. معظم القوة الجوية العراقية دُمّرت وهي رابضة في المطارات. لقد تدهورت مكانة الجيش وزالت هيبته، وهرب ضباطه المهمون إلى خارج البلاد، واعتقل بعضهم ونفي آخرون بسبب قربهم من المربع الذهبي. لقد انتهت فترة تعاظم الجيش، وانتهت هيمنته على الدولة. منذ تلك الفترة حرص الوصي على عرش العراق، عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد على انتخاب رئيس أركان الجيش وكبار الضباط بدقة متناهية.
حتى عام 1947 لم يجر تطوير كبير للجيش. بدأ بتنظيم القوة الجوية من جديد حيث اشتريت طائرات من نوع أنسون، وهي قديمة من مخلفات الجيش البريطاني ومصنوعة من الخشب، وتتفسخ في الجو، كما اقتنى العراق مدرعات من نوع ديملر، ولكن قوة الجيش العراقي لم تتحسن. بالمقابل جرى تطوير قوات الشرطة وزيادة عدد رجالها من 10,500 شرطي في عام 1939 إلى 19,000 شرطي في عام 1945. في إطار الشرطة أُنشئت قوة سيارة أُنيطت بها مهام أمنية كانت سابقًا من اختصاص الجيش، ولكن حتى في الشرطة عانى المنتسبون من انخفاض المعنويات والتراخي وعدم الاستعداد.
في شهر كانون الثاني 1948 كانت الوثبة العارمة التي أدّت إلى رفض البرلمان العراقي التوقيع على اتفاقية بورتسموث ما أدى إلى وقف توريد السلاح من بريطانيا إلى العراق. من الواضح أن الجيش العراقي لم يكن معدًا للحرب كما يجب وكانت تنقصه الذخائر والأعتدة وقطع الغيار. في 29/5/1948 أصدر مجلس الأمن قرارًا بحظر توريد السلاح إلى الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط فسارعت بريطانيا إلى تبني القرار ومنعت نهائيًا وصول حتى القذائف. لقد اضطرت المدفعية العراقية بعد الهدنة الأولى في فلسطين إلى استعمال قذائف مصنوعة عام 1916 التي كانت تنبعج ولا تنفجر.
ولم ترصد في ميزانيات 1947 و 1948 مبالغ غير اعتيادية للجيش. كما لم ترصد عام 1948 ميزانية حرب للنهوض بأعباء نفقات القتال، أي لم يجر تسخير كل موارد الدولة من أجل النهوض بأعباء الحرب.
بعد قرار التقسيم قام الفريق الركن إسماعيل صفوت رئيس اللجنة العسكرية المنبثقة عن جامعة الدول العربية والعميد الركن طه الهاشمي المفتش العام للمتطوعين العرب وكلاهما من العراق بتأسيس جيش الإنقاذ. أوفى العراق بجميع التزاماته نحو هذا الجيش من أسلحة وعتاد. من أفواجه كان فوج الحسين (فوج العراق)، بينما كان قادة أفواج أخرى عراقيين مثل مدلول عباس قائد فوج حطين...
دخل الجيش العراقي الحرب من أجل تحرير فلسطين. عند بدء الحرب لم تستدع قوات الاحتياط كما أن الملاكات كانت ناقصة وغير مكتملة بسبب تخلف وهروب وتسيب عدد لا بأس به من المجندين.
لم تقم دائرة أركان الجيش العراقي بإعداد خطة للحرب. لم تكن هناك لائحة حرب، ولا خطة تحرك في دائرة الأركان العراقية تعالج اشتراك الجيش العراقي في القتال في فلسطين.
لم يجر إعداد الجنود نفسيًا لخوض الحرب. هؤلاء لم يعرفوا طبيعة الأماكن التي يسعون إلى احتلالها. ناهيك عن أنه كانت تنقصهم الخرائط. جرت الحياة في بغداد كالمعتاد، وبقيت دور السينما تعرض الأفلام وكأن البلاد ليست مشاركة في حرب.
في فلسطين وجد الجيش العراقي صعوبة في تأمين التموين لجيشه إذ بلغت المسافة بين حيفا وبغداد ما يقارب ألف كيلو متر. بينما بلغ طول الجبهة التي أوكل بالدفاع عنها 160 كيلو متر.
امتاز الجيش العراقي بالشجاعة والبسالة. وقد حظي سلاح المدفعية بدرجة عالية في دقة إصابة الأهداف وتصويب النيران.
خاض الجيش العراقي في فلسطين عدة معارك، أهمها معركة جنين الأولى التي أثبت فيها القائد الملهم المقدم الركن عمر علي وجنوده قدرة فائقة على المناورة والانقضاض على العدو، فكبدوه خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وهزموه شر هزيمة فرفعوا رؤوس العرب جميعًا. ما يزال أبناء فلسطين يلهجون باسم هذا القائد وجنود فوجه الثاني من اللواء الخامس الذي كان من مرتبات جحفل الملكة عالية (اللواء الرابع)
خلال مكوثه في فلسطين سيطر الجيش العراقي على المناضلين الفلسطينيين في القرى والمدن الواقعة بالقرب من الخطوط الأمامية، وراح يدربهم على القتال، وينظمهم في فصائل ثم بأفواج وهي: فوج الكرمل، فوج خالد بن الوليد، فوج صلاح الدين وفوج الشعراوية، ثم أنشأ لهم لواءين هما الثاني والسادس. وهو بذلك يكون الوحيد من بين الجيوش العربية الذي استغل العنصر الفلسطيني في الدفاع عن بلاده. تم ذلك بموافقة جامعة الدول العربية وعلى نفقتها. لقد أثبت المناضلون الفلسطينيون قدرة جيدة على القتال في معركة جنين الثانية حيث قاتلوا إلى جانب الجيش العراقي وحرروا سبع قرى عربية مهجرة. في بحثنا هذا استعرضنا عملية تجنيد المناضلين الفلسطينيين بالتفصيل وما بذله الجيش العراقي في هذا المضمار، وهو موضوع لم يسبق لباحث أن تطرق إليه. كانت إسرائيل تشبه نفسها بداوود الذي قتل جالوت، أي أن جيشها قليل العدد تغلب على جيوش سبع دول عربية، والبحث العلمي يكشف إنه في 15 أيار 1948 كان مجموع ما اشترك من جميع الدول العربية 21,500 جندي مقابل 65,000 جندي إسرائيلي. يضاف إلى العدد الأخير 3,000 مقاتل أجنبي غير يهودي من خارج فلسطين (قوات ماحل)، و 22,000 مقاتل يهودي ممن نجوا من الكارثة وانضموا بعد ذلك إلى صفوف الجيش الإسرائيلي (قوات جاحل). ناهيك عن الطائرات والأسلحة التي وصلت عن طريق تشيكوسلوفكيا والولايات المتحدة. فلا عجب إن قلنا إنّ إي دولة عربية بمفردها لا تستطيع الصمود!
صدر في لندن عن دار النشر Ekutub بحلة قشيبة كتاب جديد بعنوان 'دور الجيش العراقي في حرب فلسطين 1948-1949'، للدكتور محمد عقل، وهو دراسة علمية وثائقية، من جزأين كبيرين، من القطع المتوسط. قضى المؤلف السنين الطوال في جمع الوثائق من الأرشيفات وتسجيل المرويات الشفوية في منطقة المثلث والاطلاع على المذكرات والمصادر التاريخية المطبوعة والمخطوطة.
تكشف لنا تلك الوثائق والمذكرات والمصادر التاريخية بأنّ العراق كان محجًا وقبلة للمثقفين ثم السياسيين والمناضلين الفلسطينيين قبل أي بلد آخر نظرًا للسياسة القومية التي اتبعها هذا البلد منذ تأسيس كيانه الهاشمي عام 1921. في سير بعض هؤلاء المثقفين ما يدل على أن العراق لم يكن فقط مصدر رزق لهم، وإنما كان حاضنة لفكرهم النضالي في سبيل استقلال فلسطين. في أيلول 1939 وصل إلى العراق المفتي الحاج أمين الحسيني ومعه عدد كبير من المجاهدين والمناضلين، ورغم أن الوصي عبد الإله ونوري السعيد قدما له معونة مالية، ووافقا على دخوله إلى العراق، إلا أن المفتي والفلسطينيين المتواجدين في العراق ساندوا ثورة رشيد عالي الكيلاني في سنة 1941، ودعموها. لقد أدت هذه الثورة إلى هروب الوصي عبد الإله ونوري السعيد وغيرهم ممن كانوا يؤيدون بريطانيا في حربها ضد ألمانيا. في شهر أيار سنة 1941 نزلت القوات البريطانية في ميناء البصرة وأخذت تزحف نحو بغداد. في نفس الوقت اجتازت الحدود قوات من شرق الأردن، والتقى الجمعان الأمر الذي مكنهم من القضاء على الثورة المناهضة للإنكليز. لم يكن الموقف الجديد في صالح القضية الفلسطينية'.
لكيلا يتدخل الجيش مرة أخرى في السياسة جرى خفض عدده من 40,000 جندي إلى 20,000 جندي. بناء على توصية من البعثة العسكرية البريطانية أصبح الجيش في عام 1944 مكونًا من ثلاث فرق بدلاً من أربع. كما أن بريطانيا امتنعت عن تزويد هذا الجيش بأسلحة جديدة واكتفت بإمداده بذخائر محدودة ومعدات قديمة. معظم القوة الجوية العراقية دُمّرت وهي رابضة في المطارات. لقد تدهورت مكانة الجيش وزالت هيبته، وهرب ضباطه المهمون إلى خارج البلاد، واعتقل بعضهم ونفي آخرون بسبب قربهم من المربع الذهبي. لقد انتهت فترة تعاظم الجيش، وانتهت هيمنته على الدولة. منذ تلك الفترة حرص الوصي على عرش العراق، عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد على انتخاب رئيس أركان الجيش وكبار الضباط بدقة متناهية.
حتى عام 1947 لم يجر تطوير كبير للجيش. بدأ بتنظيم القوة الجوية من جديد حيث اشتريت طائرات من نوع أنسون، وهي قديمة من مخلفات الجيش البريطاني ومصنوعة من الخشب، وتتفسخ في الجو، كما اقتنى العراق مدرعات من نوع ديملر، ولكن قوة الجيش العراقي لم تتحسن. بالمقابل جرى تطوير قوات الشرطة وزيادة عدد رجالها من 10,500 شرطي في عام 1939 إلى 19,000 شرطي في عام 1945. في إطار الشرطة أُنشئت قوة سيارة أُنيطت بها مهام أمنية كانت سابقًا من اختصاص الجيش، ولكن حتى في الشرطة عانى المنتسبون من انخفاض المعنويات والتراخي وعدم الاستعداد.
في شهر كانون الثاني 1948 كانت الوثبة العارمة التي أدّت إلى رفض البرلمان العراقي التوقيع على اتفاقية بورتسموث ما أدى إلى وقف توريد السلاح من بريطانيا إلى العراق. من الواضح أن الجيش العراقي لم يكن معدًا للحرب كما يجب وكانت تنقصه الذخائر والأعتدة وقطع الغيار. في 29/5/1948 أصدر مجلس الأمن قرارًا بحظر توريد السلاح إلى الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط فسارعت بريطانيا إلى تبني القرار ومنعت نهائيًا وصول حتى القذائف. لقد اضطرت المدفعية العراقية بعد الهدنة الأولى في فلسطين إلى استعمال قذائف مصنوعة عام 1916 التي كانت تنبعج ولا تنفجر.
ولم ترصد في ميزانيات 1947 و 1948 مبالغ غير اعتيادية للجيش. كما لم ترصد عام 1948 ميزانية حرب للنهوض بأعباء نفقات القتال، أي لم يجر تسخير كل موارد الدولة من أجل النهوض بأعباء الحرب.
بعد قرار التقسيم قام الفريق الركن إسماعيل صفوت رئيس اللجنة العسكرية المنبثقة عن جامعة الدول العربية والعميد الركن طه الهاشمي المفتش العام للمتطوعين العرب وكلاهما من العراق بتأسيس جيش الإنقاذ. أوفى العراق بجميع التزاماته نحو هذا الجيش من أسلحة وعتاد. من أفواجه كان فوج الحسين (فوج العراق)، بينما كان قادة أفواج أخرى عراقيين مثل مدلول عباس قائد فوج حطين...
دخل الجيش العراقي الحرب من أجل تحرير فلسطين. عند بدء الحرب لم تستدع قوات الاحتياط كما أن الملاكات كانت ناقصة وغير مكتملة بسبب تخلف وهروب وتسيب عدد لا بأس به من المجندين.
لم تقم دائرة أركان الجيش العراقي بإعداد خطة للحرب. لم تكن هناك لائحة حرب، ولا خطة تحرك في دائرة الأركان العراقية تعالج اشتراك الجيش العراقي في القتال في فلسطين.
لم يجر إعداد الجنود نفسيًا لخوض الحرب. هؤلاء لم يعرفوا طبيعة الأماكن التي يسعون إلى احتلالها. ناهيك عن أنه كانت تنقصهم الخرائط. جرت الحياة في بغداد كالمعتاد، وبقيت دور السينما تعرض الأفلام وكأن البلاد ليست مشاركة في حرب.
في فلسطين وجد الجيش العراقي صعوبة في تأمين التموين لجيشه إذ بلغت المسافة بين حيفا وبغداد ما يقارب ألف كيلو متر. بينما بلغ طول الجبهة التي أوكل بالدفاع عنها 160 كيلو متر.
امتاز الجيش العراقي بالشجاعة والبسالة. وقد حظي سلاح المدفعية بدرجة عالية في دقة إصابة الأهداف وتصويب النيران.
خاض الجيش العراقي في فلسطين عدة معارك، أهمها معركة جنين الأولى التي أثبت فيها القائد الملهم المقدم الركن عمر علي وجنوده قدرة فائقة على المناورة والانقضاض على العدو، فكبدوه خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وهزموه شر هزيمة فرفعوا رؤوس العرب جميعًا. ما يزال أبناء فلسطين يلهجون باسم هذا القائد وجنود فوجه الثاني من اللواء الخامس الذي كان من مرتبات جحفل الملكة عالية (اللواء الرابع)
خلال مكوثه في فلسطين سيطر الجيش العراقي على المناضلين الفلسطينيين في القرى والمدن الواقعة بالقرب من الخطوط الأمامية، وراح يدربهم على القتال، وينظمهم في فصائل ثم بأفواج وهي: فوج الكرمل، فوج خالد بن الوليد، فوج صلاح الدين وفوج الشعراوية، ثم أنشأ لهم لواءين هما الثاني والسادس. وهو بذلك يكون الوحيد من بين الجيوش العربية الذي استغل العنصر الفلسطيني في الدفاع عن بلاده. تم ذلك بموافقة جامعة الدول العربية وعلى نفقتها. لقد أثبت المناضلون الفلسطينيون قدرة جيدة على القتال في معركة جنين الثانية حيث قاتلوا إلى جانب الجيش العراقي وحرروا سبع قرى عربية مهجرة. في بحثنا هذا استعرضنا عملية تجنيد المناضلين الفلسطينيين بالتفصيل وما بذله الجيش العراقي في هذا المضمار، وهو موضوع لم يسبق لباحث أن تطرق إليه. كانت إسرائيل تشبه نفسها بداوود الذي قتل جالوت، أي أن جيشها قليل العدد تغلب على جيوش سبع دول عربية، والبحث العلمي يكشف إنه في 15 أيار 1948 كان مجموع ما اشترك من جميع الدول العربية 21,500 جندي مقابل 65,000 جندي إسرائيلي. يضاف إلى العدد الأخير 3,000 مقاتل أجنبي غير يهودي من خارج فلسطين (قوات ماحل)، و 22,000 مقاتل يهودي ممن نجوا من الكارثة وانضموا بعد ذلك إلى صفوف الجيش الإسرائيلي (قوات جاحل). ناهيك عن الطائرات والأسلحة التي وصلت عن طريق تشيكوسلوفكيا والولايات المتحدة. فلا عجب إن قلنا إنّ إي دولة عربية بمفردها لا تستطيع الصمود!
التعليقات
"دور الجيش العراقي في حرب فلسطين 1948-1949": كتاب جديد للدكتور محمد عقل
التعليقات