عرض رئيس اللجنة القانونية بمجلس النواب المحامي عبد المنعم العودات عدداً من الحقائق، أوضح فيها وقائع تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية تفسر 'لاءات' جلالة الملك الثلاث.
وأشار العودات خلال ندوة حوارية نظّمها فرع حزب المؤتمر الوطني للبناء (زمزم) في اربد السبت، إلى أن الموقف الأردني الذي يرفض بشكل قاطع للإجراءات الأمريكية، واعتبارها غير قابلة للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان.
ونوه إلى أن الأردن ممثل بجلالة الملك، لا يكتفي بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استناداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس،
وتالياً نص كلمة العودات:
بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على النبيّ العربيّ الهاشمي، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أودّ في البداية أن أتوجّه بعظيم الشكر والتقدير إلى رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية لحزب المؤتمر الوطني (زمزم) / فرع محافظ إربد، وإلى جميع الأخوة والأخوات الحاضرين هنا، شاكراً حضورهم ومشاركتهم في تناول قضية تشكّل اليوم تحدياً حقيقياً لبلدنا ومصالحه الوطنية العليا، وللقضية الفلسطينية التي هي قضية الأردن الأولى، بما يجمع الأردنيين والفلسطينيين من وحدة الهدف والمصير.
أما بعد،
اسمحوا لي، أن أبدأ من نقطة جوهرية لفهم موقف بلدنا الأردن من صفقة القرن، وغيرها من المشاريع المطروحة بشأن قضية الشعب الفلسطيني والقضايا التي تتعرض لها المنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط.
أقصد هنا القيمة الحقيقية للدولة الأردنية، وعناصر قوتها الإستراتيجية والمنظومة القيمية التي تستند إليها في مواقفها الثابتة، وفي إدارتها لمصالحها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، ومكانتها في التوازنات الإقليمية والدولية.
هنالك اعتقادٌ سائدٌ بأن الأردن بإمكانياته القليلة مقارنة مع الدول القوية في المنطقة لا يملك الكثير من عناصر القوة التي تؤهله لمقاومة أو مراجعة أو التأثير في مجرى الأحداث والتطورات السياسية الإقليمية والدولية، وهذا الاعتقاد ناجم ربما عن حالة الإنهيار التي تعرضت لها دول عربية في السنوات الأخيرة، خلال ما يسمى بالربيع العربي، وما نجم عنه من سقوط لبعض الأنظمة، وما أصاب تلك البلدان العزيزة علينا من فوضى، ومن تهديد ناجم عن جرائم المنظمات الإرهابية، والأطماع الخارجية.
النقطة المركزية هنا تكمن في طبيعة العلاقة، أو العقد السياسي والاجتماعي بين الشعب الأردني ونظامه الهاشمي، وقدرة ووعي الأردنيين على فهم الفارق بين (الوطنية الايجابية) التي تحافظ على كيان الدولة ووحدته الوطنية، وبين (الاختلاف المشروع) في الرأي حول إدارة الشأن الداخلي، وكيفية معالجة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وإدارة المؤسسات العامة والخاصة في الدولة.
بمعنى أدق، نحن متفقون على سلامة الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها، ومؤمنون كذلك بإمكانية التغيير نحو الأفضل، بما يحقق المزيد من الانجازات، ويضمن المستقبل الواعد للأجيال القادمة، رغم ما نواجهه من معيقات وضغوطات واخفاقات.
إن هذه الحقائق هي التي تفسّر ما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله، عند إعلانه عن اللاءات الثلاث بشأن صفقة القرن (إن شعبي معي).
والسؤال الكبير الآن، ما هي صفقة القرن؟ في اعتقادي أن هذا المصطلح في الأصل إعلامي بالدرجة الأولى، يعكس إلى حد بعيد تصوراً مرتبطاً بطبيعة وخلفيات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفريقه في البيت الأبيض، وهو ترجمة لكلمة (ديل) بالإنجليزية والتي تعني صفقة ، ويمكن أن تعني كذلك اتفاقاً، ولو كان الترويج لها تحت عنوان (اتفاق القرن)، لكان لها مدلولات أخرى، لأن الاتفاق يأخذ في الاعتبار أساس حقوق جميع أطراف قضية ما، بناءً على مستندات قانونية ومرجعيات تاريخية، ومكونات موضوعية لتلك القضية، أما الصفقة فهي عملية تقوم على تحقيق مصالح الأطراف، مع الأخذ في الاعتبار قوة أو ضعف تلك الأطراف، وغالباً ما ترجح كفة مصالح الطرف الأقوى .
الثابت أن جلالة الملك أدرك منذ البداية أن تفكير الإدارة الأمريكية متجه نحو الصفقة، وليس الاتفاق، بدليل أنها بدأت بطرح آلية المشاريع الاستثمارية بحجة دعم الاقتصاد الفلسطيني، والدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، من أجل توطينهم، بعد أن ألغت الولايات المتحدة دعمها لوكالة الغوث، وسعت إلى إنهاء وجودها، معتبرة الطرف الفلسطيني الطرف الأضعف في تلك المعادلة، في ضوء الوضع العربي السائد، بما في ذلك تزايد القناعة لدى دول عربية شقيقة بأن التهديد الإسرائيلي لأمنها واستقرارها هو أقل خطورة عليها من التهديد الإيراني.
لكن النقطة التي سبقت ذلك كله، أي إعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل واليهود، هي التي تشكّل منها محور المواقف التي عبر عنها جلالة الملك علناً وبوضوح في جميع اللقاءات التي عقدها مع الرئيس الأمريكي ونائبه ومستشاريه وفي مقدمتهم جاريد كوشنير (المسؤول عن الصفقة)، واللقاءات التي جمعته مع غيرهم من قادة الدول الكبرى، والقادة العرب.
في اعتقادي أن جلالة الملك رأى في تلك الخطوة نوعاً من التغيير في مجرى الصراع بالمنطقة يحوله إلى صراع ديني سيقود إلى احتمالات لم تكن حاضرة بقوة في الماضي كما هي اليوم، خاصة عندما يتم إلغاء ليس فقط الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني بإعتبار القدس الشريف أرضاً محتلة يجب استعادتها من خلال عملية سلام تمنح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه بعاصمتها القدس الشرقية، وإنما إلغاء الحقوق الدينية للمسلمين والمسيحيين، فضلاً عن الحقوق التاريخية العربية.
هذه هي (اللاء) الأولى والمركزية في اللاءات الثلاث، ومن ضمنها قضية التمسك بالولاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها الحرم القدسي الشريف، والمسجد الأقصى المبارك ، وهي ولاية مسلّمٌ بها منذ الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه، ومنصوص عليها بإتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، وفي الاتفاق الموقع بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهي عملية ممارسة على أرض الواقع من خلال مشاريع الإعمار والترميم، وإدارة شؤون الأوقاف، والمرافق الدينية والتعليمية والخيرية، وغيرها مما هو منظم ومتابع من قبل وزارة الوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، والصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
الموقف إذاً، هو رفض الإجراء الأميركي رفضاً قاطعاً، واعتباره غير قابل للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان، ولا يكتفي الأردن ممثلا بجلالة الملك بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استنداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس، والتي تعتبر الأراضي التي اُحتلت عام (1967) أراضي محتلة بالقوة العسكرية يتوجب على إسرائيل مغادرتها، وكذلك تعتبر إجراءات ضم المدينة باطلة جملة وتفصيلاً.
ماذا يعني ذلك الموقف ؟
هذا الموقف يعني بوضوح، أن الأساس المنطقي والصحيح والعادل يقوم على حل الدولتين، إذا كان الهدف إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأن غير ذلك يعني انتهاز الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية السيئة لفرض أمر واقع جديد عن طريق الضغط باستخدام قوة النفوذ، أي الرضوخ لإرادة إسرائيل المدعومة بالإدارة والإرادة الأمريكية، في غياب موقف مقابل قادر على الرفض، وهذه نظرية يستند إليها الرئيس ترامب وقد عبّر عنها علنا، في مناسبات كثيرة، 'من دون مساعدتنا لا تصمد دولكم أسبوعين'.
هل تشكّل الحقوق الدينية والتاريخية والقانونية موقفاً قوياً؟ الجواب (نعم)، وذلك عندما تُظهر الشعوب تضامنها ومساندتها للمموقف الرسمي، وهنا تكمن قوة مواقف جلالة الملك المدعومة بتحالف الشعب الأردني، ومعه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، والمسيحية في رفضه لمنطلقات ومراحل وأدوات صفقة القرن، وهو موقف يقول للأطراف الأخرى إنكم تخرجون بهذا عن السياق التاريخي، وتضيّعون الوقت في قضية لا تحسمها الضغوط مهما بلغت قوة الضغط، وإنما يحسمُها الحقُ والعدلُ وإرادةُ السلام، وأنتم باختصار تطيلون أمد الصراع، وتزيدون من تعقيداته ومخاطره.
لا أبالغ إذا قلت إن الضغط يمكن أن يولد قوة موازية، يستخدمها جلالة الملك من خلال إثباب الخلل في موقف الطرف الآخر من الناحية العملية وهو لا يراهن على الوقت وحسب، ولكن على قوة الحق الذي يدافع عنه، في مقابل الباطل الذي تحاول تلك الأطراف فرضه على المنطقة، وعلى الطريق الصحيح الذي يقود الجميع نحو السلام والأمن والتعاون الإقليمي والعالمي، في مقابل الطريق الخاطئ الذي تسلكه تلك الأطراف بدافع من جنون العظمة وعنجهة القوة.
والعامل الهام الآخر في القوة التي تستند إليها مواقف جلالة الملك، يرتكز إلى الاحترام الذي يحظى به على المستوى الدولي في تبنيه لمبادرات الوئام والسلام بين الديانات والشعوب والثقافات والحضارات، التي تجسد بعضها في الأسبوع العالمي للوئام الذي تبنته الأمم المتحدة، وفي التقدير الذي حظي به ويحظى به من هيئات مسيحية، كما رأينا في جائزة (تمبلتون)، وجائزة (مصباح السلام)، وغيرها مما يقر بشرعية جلالته في الحفاظ على المقدسات والحقوق المسيحية في القدس، بكل ما يمثله من مشروعية دينية، بحكم نسبه الشريف لسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي أسرى به الله سبحانه وتعالى إلى المسجد الأقصى المبارك ليعرج منه إلى السموات العلا، وبحكم العهدة العمرية التي أرست قواعد الحقوق المشتركة للمسلمين والمسيحيين في مدينة القدس.
أردت أن أبدأ بـ(لاء) القدس والوصاية الهاشمية على مقدساتها، لأن ما يتبعها من (لا للوطن البديل ولا للتوطين)، ترتبطان حكماً بحجر الزاوية في الصراع المركزي، ذلك أن القبول بحل الدولتين يعني عودة القدس إلى السيادة الفلسطينية بإرثها الديني والتاريخي، ويعني إقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني على أرضه، وبالتالي يسقط خيار الوطن البديل، إن كان موجودا أصلاً، ويصبح الحديث عن الحقوق التي قررتها الشرعية الدولية لللاجئين الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير، بدل التوطين والتشريد والقهر.
أما أذا استمرت الإدارة الأمريكية ومعها إسرائيل في محاولة فرض الصفقة لتصفية القضية الفلسطينية، فإن الحقائق على الأرض ستضع الصفقة على المحك، ونحن على يقين أنها ستضل الطريق حتماً لأنه الطريق الخاطئ من خطوته الأولى، ورغم استمرار المستشار كوشنير في فكرته الساذجة (الاستثمار مقابل السلام) بدل الاستقلال مقابل السلام فإن جذور القضية الفلسطينية العربية أعمق بكثير من قطعها بأدوات واهية.
لا بد لي قبل أن أختم هذه المحاضرة أن أشير إلى بعض النقاط الواقعية حتى نُعزّز من قدراتنا على التعجيل بسقوط ما يسمى بصفقة القرن، وسواء كان الأمر سهلاً ممكناً أو صعباً معقداً، فإن عنصر الوعي والثقة بالنفس يلعبان دوراً مهماً جداً في إسقاط تلك الصفقة المريبة، وفي تشكيل بداية جديدة لحالة أردنية فلسطينية عربية، قادرة على تشكيل موقف إسلامي وإنساني مساند لحقوقنا المشروعة، يحفظ كرامتنا الوطنية والقومية، ويضمن مصالحنا وحقوقنا في الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار.
وفي الملخص،
أولاً: لا بد لنا في الأردن أن ندرك أكثر من أي وقت مضى أن أسباب ومسببات الوضع الاقتصادي الراهن ليست بعيدة عن مخطط مرسوم مسبقاً لكي يرضخ الأردن للضغوط، والاجراءات الحكومية لمعالجة هذا الوضع ليست كافية إذا لم يقابلها وعي وطني للأسباب الحقيقة وراء غياب الدعم الذي يستحقه الأردن، سواء مقابل مساهمته في الحرب على الإرهاب ضمن تحالف دولي وعربي، أو تحمله أعباء اللجوء السوري أو دوره الإيجابي في حل المشاكل والأزمات في المنطقة.
ذلك لا يعني، ألا نتحمل مسؤولية أخطائنا، وفشل العديد من السياسات الحكومية في إدارة اقتصادنا الوطني، لكن نحن أحوج ما نكون إلى مزيد من التضامن والتكافل الوطني، لتجاوز أزمتنا الراهنة من ناحية، ولتعزيز صمود بلدنا في وجه المخططات والأزمات والمخاطر والتهديدات من ناحية أخرى.
ثانياً: لا بد للأخوة الفلسطينيين أن ينهوا انقساهم على الفور، فقد تحوّلت المبررات إلى إدانات لكل من يتردد بعد في إعادة تشكيل موقف فلسطيني موحد وقوي، لأن أساس ضعف الموقف الفلسطيني، يعود إلى مسألتين: الأولى هي الانقسام السياسي الذي يعطي إسرائيل الحجة بادعائها عدم وجود طرف فلسطيني واحد تجلس معه على طاولة المفاوضات، والثانية اتفاقية (أوسلو) التي وضعت سقفاً هابطاً لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال التام، الأمر الذي يفرض على إخواننا في السلطة الوطنية الفلسطينية إعادة تقييم الموقف من جديد، واتخاذ الخطوات والقرارات التي يتوجب عليهم اتخاذها .
ثالثاً : إن الوضع الراهن للعلاقات العربية العربية في أسوأ حالاته، ومن دون الدخول في التفاصيل بخاصة مسألة التطبيع السابق لأوانه، يمكن التركيز على نوع من التوافق بشأن الخلاف على أولوية التهديدات الخارجية، على أساس عدم التمييز بينها من حيث مخاطرها، فإذا كان الحديث عن تهديد للأمن القومي يراه بعض أشقائنا أنه أكثر خطورة من التهديد الإسرائيلي وغيره من التهديدات ذات البعدين الإقليمي والدولي، فلنتفق على أن التهديد هو التهديد، يجب الاستعداد والتصدي له بغض النظر عن مصدره، ذلك أن التهديد الأكثر خطورة لا يعني أن التهديد الأقل ليس تهديداً.
رابعاً: ليست الولايات المتحدة الأمريكية القوة الدولية الوحيدة وإن كانت الأكثر قوة، إن هناك من القوى الدولية مثل روسيا والصين ومعظم أوروبا تساند موقفنا، وتساند الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهي كذلك معنية بأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يجب توظيفه لدعم قدراتنا على مواجهة صفقة القرن، وإسقاطها.
أشكركم جزيل الشكر على اصغائكم، وآمل أن أكون قد وفقت في تلبية الغاية من هذه المحاضرة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عرض رئيس اللجنة القانونية بمجلس النواب المحامي عبد المنعم العودات عدداً من الحقائق، أوضح فيها وقائع تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية تفسر 'لاءات' جلالة الملك الثلاث.
وأشار العودات خلال ندوة حوارية نظّمها فرع حزب المؤتمر الوطني للبناء (زمزم) في اربد السبت، إلى أن الموقف الأردني الذي يرفض بشكل قاطع للإجراءات الأمريكية، واعتبارها غير قابلة للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان.
ونوه إلى أن الأردن ممثل بجلالة الملك، لا يكتفي بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استناداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس،
وتالياً نص كلمة العودات:
بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على النبيّ العربيّ الهاشمي، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أودّ في البداية أن أتوجّه بعظيم الشكر والتقدير إلى رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية لحزب المؤتمر الوطني (زمزم) / فرع محافظ إربد، وإلى جميع الأخوة والأخوات الحاضرين هنا، شاكراً حضورهم ومشاركتهم في تناول قضية تشكّل اليوم تحدياً حقيقياً لبلدنا ومصالحه الوطنية العليا، وللقضية الفلسطينية التي هي قضية الأردن الأولى، بما يجمع الأردنيين والفلسطينيين من وحدة الهدف والمصير.
أما بعد،
اسمحوا لي، أن أبدأ من نقطة جوهرية لفهم موقف بلدنا الأردن من صفقة القرن، وغيرها من المشاريع المطروحة بشأن قضية الشعب الفلسطيني والقضايا التي تتعرض لها المنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط.
أقصد هنا القيمة الحقيقية للدولة الأردنية، وعناصر قوتها الإستراتيجية والمنظومة القيمية التي تستند إليها في مواقفها الثابتة، وفي إدارتها لمصالحها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، ومكانتها في التوازنات الإقليمية والدولية.
هنالك اعتقادٌ سائدٌ بأن الأردن بإمكانياته القليلة مقارنة مع الدول القوية في المنطقة لا يملك الكثير من عناصر القوة التي تؤهله لمقاومة أو مراجعة أو التأثير في مجرى الأحداث والتطورات السياسية الإقليمية والدولية، وهذا الاعتقاد ناجم ربما عن حالة الإنهيار التي تعرضت لها دول عربية في السنوات الأخيرة، خلال ما يسمى بالربيع العربي، وما نجم عنه من سقوط لبعض الأنظمة، وما أصاب تلك البلدان العزيزة علينا من فوضى، ومن تهديد ناجم عن جرائم المنظمات الإرهابية، والأطماع الخارجية.
النقطة المركزية هنا تكمن في طبيعة العلاقة، أو العقد السياسي والاجتماعي بين الشعب الأردني ونظامه الهاشمي، وقدرة ووعي الأردنيين على فهم الفارق بين (الوطنية الايجابية) التي تحافظ على كيان الدولة ووحدته الوطنية، وبين (الاختلاف المشروع) في الرأي حول إدارة الشأن الداخلي، وكيفية معالجة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وإدارة المؤسسات العامة والخاصة في الدولة.
بمعنى أدق، نحن متفقون على سلامة الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها، ومؤمنون كذلك بإمكانية التغيير نحو الأفضل، بما يحقق المزيد من الانجازات، ويضمن المستقبل الواعد للأجيال القادمة، رغم ما نواجهه من معيقات وضغوطات واخفاقات.
إن هذه الحقائق هي التي تفسّر ما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله، عند إعلانه عن اللاءات الثلاث بشأن صفقة القرن (إن شعبي معي).
والسؤال الكبير الآن، ما هي صفقة القرن؟ في اعتقادي أن هذا المصطلح في الأصل إعلامي بالدرجة الأولى، يعكس إلى حد بعيد تصوراً مرتبطاً بطبيعة وخلفيات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفريقه في البيت الأبيض، وهو ترجمة لكلمة (ديل) بالإنجليزية والتي تعني صفقة ، ويمكن أن تعني كذلك اتفاقاً، ولو كان الترويج لها تحت عنوان (اتفاق القرن)، لكان لها مدلولات أخرى، لأن الاتفاق يأخذ في الاعتبار أساس حقوق جميع أطراف قضية ما، بناءً على مستندات قانونية ومرجعيات تاريخية، ومكونات موضوعية لتلك القضية، أما الصفقة فهي عملية تقوم على تحقيق مصالح الأطراف، مع الأخذ في الاعتبار قوة أو ضعف تلك الأطراف، وغالباً ما ترجح كفة مصالح الطرف الأقوى .
الثابت أن جلالة الملك أدرك منذ البداية أن تفكير الإدارة الأمريكية متجه نحو الصفقة، وليس الاتفاق، بدليل أنها بدأت بطرح آلية المشاريع الاستثمارية بحجة دعم الاقتصاد الفلسطيني، والدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، من أجل توطينهم، بعد أن ألغت الولايات المتحدة دعمها لوكالة الغوث، وسعت إلى إنهاء وجودها، معتبرة الطرف الفلسطيني الطرف الأضعف في تلك المعادلة، في ضوء الوضع العربي السائد، بما في ذلك تزايد القناعة لدى دول عربية شقيقة بأن التهديد الإسرائيلي لأمنها واستقرارها هو أقل خطورة عليها من التهديد الإيراني.
لكن النقطة التي سبقت ذلك كله، أي إعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل واليهود، هي التي تشكّل منها محور المواقف التي عبر عنها جلالة الملك علناً وبوضوح في جميع اللقاءات التي عقدها مع الرئيس الأمريكي ونائبه ومستشاريه وفي مقدمتهم جاريد كوشنير (المسؤول عن الصفقة)، واللقاءات التي جمعته مع غيرهم من قادة الدول الكبرى، والقادة العرب.
في اعتقادي أن جلالة الملك رأى في تلك الخطوة نوعاً من التغيير في مجرى الصراع بالمنطقة يحوله إلى صراع ديني سيقود إلى احتمالات لم تكن حاضرة بقوة في الماضي كما هي اليوم، خاصة عندما يتم إلغاء ليس فقط الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني بإعتبار القدس الشريف أرضاً محتلة يجب استعادتها من خلال عملية سلام تمنح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه بعاصمتها القدس الشرقية، وإنما إلغاء الحقوق الدينية للمسلمين والمسيحيين، فضلاً عن الحقوق التاريخية العربية.
هذه هي (اللاء) الأولى والمركزية في اللاءات الثلاث، ومن ضمنها قضية التمسك بالولاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها الحرم القدسي الشريف، والمسجد الأقصى المبارك ، وهي ولاية مسلّمٌ بها منذ الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه، ومنصوص عليها بإتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، وفي الاتفاق الموقع بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهي عملية ممارسة على أرض الواقع من خلال مشاريع الإعمار والترميم، وإدارة شؤون الأوقاف، والمرافق الدينية والتعليمية والخيرية، وغيرها مما هو منظم ومتابع من قبل وزارة الوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، والصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
الموقف إذاً، هو رفض الإجراء الأميركي رفضاً قاطعاً، واعتباره غير قابل للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان، ولا يكتفي الأردن ممثلا بجلالة الملك بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استنداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس، والتي تعتبر الأراضي التي اُحتلت عام (1967) أراضي محتلة بالقوة العسكرية يتوجب على إسرائيل مغادرتها، وكذلك تعتبر إجراءات ضم المدينة باطلة جملة وتفصيلاً.
ماذا يعني ذلك الموقف ؟
هذا الموقف يعني بوضوح، أن الأساس المنطقي والصحيح والعادل يقوم على حل الدولتين، إذا كان الهدف إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأن غير ذلك يعني انتهاز الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية السيئة لفرض أمر واقع جديد عن طريق الضغط باستخدام قوة النفوذ، أي الرضوخ لإرادة إسرائيل المدعومة بالإدارة والإرادة الأمريكية، في غياب موقف مقابل قادر على الرفض، وهذه نظرية يستند إليها الرئيس ترامب وقد عبّر عنها علنا، في مناسبات كثيرة، 'من دون مساعدتنا لا تصمد دولكم أسبوعين'.
هل تشكّل الحقوق الدينية والتاريخية والقانونية موقفاً قوياً؟ الجواب (نعم)، وذلك عندما تُظهر الشعوب تضامنها ومساندتها للمموقف الرسمي، وهنا تكمن قوة مواقف جلالة الملك المدعومة بتحالف الشعب الأردني، ومعه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، والمسيحية في رفضه لمنطلقات ومراحل وأدوات صفقة القرن، وهو موقف يقول للأطراف الأخرى إنكم تخرجون بهذا عن السياق التاريخي، وتضيّعون الوقت في قضية لا تحسمها الضغوط مهما بلغت قوة الضغط، وإنما يحسمُها الحقُ والعدلُ وإرادةُ السلام، وأنتم باختصار تطيلون أمد الصراع، وتزيدون من تعقيداته ومخاطره.
لا أبالغ إذا قلت إن الضغط يمكن أن يولد قوة موازية، يستخدمها جلالة الملك من خلال إثباب الخلل في موقف الطرف الآخر من الناحية العملية وهو لا يراهن على الوقت وحسب، ولكن على قوة الحق الذي يدافع عنه، في مقابل الباطل الذي تحاول تلك الأطراف فرضه على المنطقة، وعلى الطريق الصحيح الذي يقود الجميع نحو السلام والأمن والتعاون الإقليمي والعالمي، في مقابل الطريق الخاطئ الذي تسلكه تلك الأطراف بدافع من جنون العظمة وعنجهة القوة.
والعامل الهام الآخر في القوة التي تستند إليها مواقف جلالة الملك، يرتكز إلى الاحترام الذي يحظى به على المستوى الدولي في تبنيه لمبادرات الوئام والسلام بين الديانات والشعوب والثقافات والحضارات، التي تجسد بعضها في الأسبوع العالمي للوئام الذي تبنته الأمم المتحدة، وفي التقدير الذي حظي به ويحظى به من هيئات مسيحية، كما رأينا في جائزة (تمبلتون)، وجائزة (مصباح السلام)، وغيرها مما يقر بشرعية جلالته في الحفاظ على المقدسات والحقوق المسيحية في القدس، بكل ما يمثله من مشروعية دينية، بحكم نسبه الشريف لسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي أسرى به الله سبحانه وتعالى إلى المسجد الأقصى المبارك ليعرج منه إلى السموات العلا، وبحكم العهدة العمرية التي أرست قواعد الحقوق المشتركة للمسلمين والمسيحيين في مدينة القدس.
أردت أن أبدأ بـ(لاء) القدس والوصاية الهاشمية على مقدساتها، لأن ما يتبعها من (لا للوطن البديل ولا للتوطين)، ترتبطان حكماً بحجر الزاوية في الصراع المركزي، ذلك أن القبول بحل الدولتين يعني عودة القدس إلى السيادة الفلسطينية بإرثها الديني والتاريخي، ويعني إقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني على أرضه، وبالتالي يسقط خيار الوطن البديل، إن كان موجودا أصلاً، ويصبح الحديث عن الحقوق التي قررتها الشرعية الدولية لللاجئين الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير، بدل التوطين والتشريد والقهر.
أما أذا استمرت الإدارة الأمريكية ومعها إسرائيل في محاولة فرض الصفقة لتصفية القضية الفلسطينية، فإن الحقائق على الأرض ستضع الصفقة على المحك، ونحن على يقين أنها ستضل الطريق حتماً لأنه الطريق الخاطئ من خطوته الأولى، ورغم استمرار المستشار كوشنير في فكرته الساذجة (الاستثمار مقابل السلام) بدل الاستقلال مقابل السلام فإن جذور القضية الفلسطينية العربية أعمق بكثير من قطعها بأدوات واهية.
لا بد لي قبل أن أختم هذه المحاضرة أن أشير إلى بعض النقاط الواقعية حتى نُعزّز من قدراتنا على التعجيل بسقوط ما يسمى بصفقة القرن، وسواء كان الأمر سهلاً ممكناً أو صعباً معقداً، فإن عنصر الوعي والثقة بالنفس يلعبان دوراً مهماً جداً في إسقاط تلك الصفقة المريبة، وفي تشكيل بداية جديدة لحالة أردنية فلسطينية عربية، قادرة على تشكيل موقف إسلامي وإنساني مساند لحقوقنا المشروعة، يحفظ كرامتنا الوطنية والقومية، ويضمن مصالحنا وحقوقنا في الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار.
وفي الملخص،
أولاً: لا بد لنا في الأردن أن ندرك أكثر من أي وقت مضى أن أسباب ومسببات الوضع الاقتصادي الراهن ليست بعيدة عن مخطط مرسوم مسبقاً لكي يرضخ الأردن للضغوط، والاجراءات الحكومية لمعالجة هذا الوضع ليست كافية إذا لم يقابلها وعي وطني للأسباب الحقيقة وراء غياب الدعم الذي يستحقه الأردن، سواء مقابل مساهمته في الحرب على الإرهاب ضمن تحالف دولي وعربي، أو تحمله أعباء اللجوء السوري أو دوره الإيجابي في حل المشاكل والأزمات في المنطقة.
ذلك لا يعني، ألا نتحمل مسؤولية أخطائنا، وفشل العديد من السياسات الحكومية في إدارة اقتصادنا الوطني، لكن نحن أحوج ما نكون إلى مزيد من التضامن والتكافل الوطني، لتجاوز أزمتنا الراهنة من ناحية، ولتعزيز صمود بلدنا في وجه المخططات والأزمات والمخاطر والتهديدات من ناحية أخرى.
ثانياً: لا بد للأخوة الفلسطينيين أن ينهوا انقساهم على الفور، فقد تحوّلت المبررات إلى إدانات لكل من يتردد بعد في إعادة تشكيل موقف فلسطيني موحد وقوي، لأن أساس ضعف الموقف الفلسطيني، يعود إلى مسألتين: الأولى هي الانقسام السياسي الذي يعطي إسرائيل الحجة بادعائها عدم وجود طرف فلسطيني واحد تجلس معه على طاولة المفاوضات، والثانية اتفاقية (أوسلو) التي وضعت سقفاً هابطاً لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال التام، الأمر الذي يفرض على إخواننا في السلطة الوطنية الفلسطينية إعادة تقييم الموقف من جديد، واتخاذ الخطوات والقرارات التي يتوجب عليهم اتخاذها .
ثالثاً : إن الوضع الراهن للعلاقات العربية العربية في أسوأ حالاته، ومن دون الدخول في التفاصيل بخاصة مسألة التطبيع السابق لأوانه، يمكن التركيز على نوع من التوافق بشأن الخلاف على أولوية التهديدات الخارجية، على أساس عدم التمييز بينها من حيث مخاطرها، فإذا كان الحديث عن تهديد للأمن القومي يراه بعض أشقائنا أنه أكثر خطورة من التهديد الإسرائيلي وغيره من التهديدات ذات البعدين الإقليمي والدولي، فلنتفق على أن التهديد هو التهديد، يجب الاستعداد والتصدي له بغض النظر عن مصدره، ذلك أن التهديد الأكثر خطورة لا يعني أن التهديد الأقل ليس تهديداً.
رابعاً: ليست الولايات المتحدة الأمريكية القوة الدولية الوحيدة وإن كانت الأكثر قوة، إن هناك من القوى الدولية مثل روسيا والصين ومعظم أوروبا تساند موقفنا، وتساند الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهي كذلك معنية بأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يجب توظيفه لدعم قدراتنا على مواجهة صفقة القرن، وإسقاطها.
أشكركم جزيل الشكر على اصغائكم، وآمل أن أكون قد وفقت في تلبية الغاية من هذه المحاضرة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عرض رئيس اللجنة القانونية بمجلس النواب المحامي عبد المنعم العودات عدداً من الحقائق، أوضح فيها وقائع تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية تفسر 'لاءات' جلالة الملك الثلاث.
وأشار العودات خلال ندوة حوارية نظّمها فرع حزب المؤتمر الوطني للبناء (زمزم) في اربد السبت، إلى أن الموقف الأردني الذي يرفض بشكل قاطع للإجراءات الأمريكية، واعتبارها غير قابلة للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان.
ونوه إلى أن الأردن ممثل بجلالة الملك، لا يكتفي بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استناداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس،
وتالياً نص كلمة العودات:
بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على النبيّ العربيّ الهاشمي، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أودّ في البداية أن أتوجّه بعظيم الشكر والتقدير إلى رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية لحزب المؤتمر الوطني (زمزم) / فرع محافظ إربد، وإلى جميع الأخوة والأخوات الحاضرين هنا، شاكراً حضورهم ومشاركتهم في تناول قضية تشكّل اليوم تحدياً حقيقياً لبلدنا ومصالحه الوطنية العليا، وللقضية الفلسطينية التي هي قضية الأردن الأولى، بما يجمع الأردنيين والفلسطينيين من وحدة الهدف والمصير.
أما بعد،
اسمحوا لي، أن أبدأ من نقطة جوهرية لفهم موقف بلدنا الأردن من صفقة القرن، وغيرها من المشاريع المطروحة بشأن قضية الشعب الفلسطيني والقضايا التي تتعرض لها المنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط.
أقصد هنا القيمة الحقيقية للدولة الأردنية، وعناصر قوتها الإستراتيجية والمنظومة القيمية التي تستند إليها في مواقفها الثابتة، وفي إدارتها لمصالحها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، ومكانتها في التوازنات الإقليمية والدولية.
هنالك اعتقادٌ سائدٌ بأن الأردن بإمكانياته القليلة مقارنة مع الدول القوية في المنطقة لا يملك الكثير من عناصر القوة التي تؤهله لمقاومة أو مراجعة أو التأثير في مجرى الأحداث والتطورات السياسية الإقليمية والدولية، وهذا الاعتقاد ناجم ربما عن حالة الإنهيار التي تعرضت لها دول عربية في السنوات الأخيرة، خلال ما يسمى بالربيع العربي، وما نجم عنه من سقوط لبعض الأنظمة، وما أصاب تلك البلدان العزيزة علينا من فوضى، ومن تهديد ناجم عن جرائم المنظمات الإرهابية، والأطماع الخارجية.
النقطة المركزية هنا تكمن في طبيعة العلاقة، أو العقد السياسي والاجتماعي بين الشعب الأردني ونظامه الهاشمي، وقدرة ووعي الأردنيين على فهم الفارق بين (الوطنية الايجابية) التي تحافظ على كيان الدولة ووحدته الوطنية، وبين (الاختلاف المشروع) في الرأي حول إدارة الشأن الداخلي، وكيفية معالجة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وإدارة المؤسسات العامة والخاصة في الدولة.
بمعنى أدق، نحن متفقون على سلامة الدولة والحفاظ على أمنها واستقرارها، ومؤمنون كذلك بإمكانية التغيير نحو الأفضل، بما يحقق المزيد من الانجازات، ويضمن المستقبل الواعد للأجيال القادمة، رغم ما نواجهه من معيقات وضغوطات واخفاقات.
إن هذه الحقائق هي التي تفسّر ما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله، عند إعلانه عن اللاءات الثلاث بشأن صفقة القرن (إن شعبي معي).
والسؤال الكبير الآن، ما هي صفقة القرن؟ في اعتقادي أن هذا المصطلح في الأصل إعلامي بالدرجة الأولى، يعكس إلى حد بعيد تصوراً مرتبطاً بطبيعة وخلفيات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفريقه في البيت الأبيض، وهو ترجمة لكلمة (ديل) بالإنجليزية والتي تعني صفقة ، ويمكن أن تعني كذلك اتفاقاً، ولو كان الترويج لها تحت عنوان (اتفاق القرن)، لكان لها مدلولات أخرى، لأن الاتفاق يأخذ في الاعتبار أساس حقوق جميع أطراف قضية ما، بناءً على مستندات قانونية ومرجعيات تاريخية، ومكونات موضوعية لتلك القضية، أما الصفقة فهي عملية تقوم على تحقيق مصالح الأطراف، مع الأخذ في الاعتبار قوة أو ضعف تلك الأطراف، وغالباً ما ترجح كفة مصالح الطرف الأقوى .
الثابت أن جلالة الملك أدرك منذ البداية أن تفكير الإدارة الأمريكية متجه نحو الصفقة، وليس الاتفاق، بدليل أنها بدأت بطرح آلية المشاريع الاستثمارية بحجة دعم الاقتصاد الفلسطيني، والدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، من أجل توطينهم، بعد أن ألغت الولايات المتحدة دعمها لوكالة الغوث، وسعت إلى إنهاء وجودها، معتبرة الطرف الفلسطيني الطرف الأضعف في تلك المعادلة، في ضوء الوضع العربي السائد، بما في ذلك تزايد القناعة لدى دول عربية شقيقة بأن التهديد الإسرائيلي لأمنها واستقرارها هو أقل خطورة عليها من التهديد الإيراني.
لكن النقطة التي سبقت ذلك كله، أي إعتراف الإدارة الأمريكية بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل واليهود، هي التي تشكّل منها محور المواقف التي عبر عنها جلالة الملك علناً وبوضوح في جميع اللقاءات التي عقدها مع الرئيس الأمريكي ونائبه ومستشاريه وفي مقدمتهم جاريد كوشنير (المسؤول عن الصفقة)، واللقاءات التي جمعته مع غيرهم من قادة الدول الكبرى، والقادة العرب.
في اعتقادي أن جلالة الملك رأى في تلك الخطوة نوعاً من التغيير في مجرى الصراع بالمنطقة يحوله إلى صراع ديني سيقود إلى احتمالات لم تكن حاضرة بقوة في الماضي كما هي اليوم، خاصة عندما يتم إلغاء ليس فقط الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني بإعتبار القدس الشريف أرضاً محتلة يجب استعادتها من خلال عملية سلام تمنح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه بعاصمتها القدس الشرقية، وإنما إلغاء الحقوق الدينية للمسلمين والمسيحيين، فضلاً عن الحقوق التاريخية العربية.
هذه هي (اللاء) الأولى والمركزية في اللاءات الثلاث، ومن ضمنها قضية التمسك بالولاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها الحرم القدسي الشريف، والمسجد الأقصى المبارك ، وهي ولاية مسلّمٌ بها منذ الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه، ومنصوص عليها بإتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، وفي الاتفاق الموقع بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهي عملية ممارسة على أرض الواقع من خلال مشاريع الإعمار والترميم، وإدارة شؤون الأوقاف، والمرافق الدينية والتعليمية والخيرية، وغيرها مما هو منظم ومتابع من قبل وزارة الوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، والصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
الموقف إذاً، هو رفض الإجراء الأميركي رفضاً قاطعاً، واعتباره غير قابل للتفاوض أو التنازل تحت أي ظرف كان، ولا يكتفي الأردن ممثلا بجلالة الملك بالرفض، وإنما يتعداه إلى المطالبة بالرجوع عنه كلياً، استنداً إلى الحقائق التاريخية، وإلى قرارات الشرعية الدولية بشأن القدس، والتي تعتبر الأراضي التي اُحتلت عام (1967) أراضي محتلة بالقوة العسكرية يتوجب على إسرائيل مغادرتها، وكذلك تعتبر إجراءات ضم المدينة باطلة جملة وتفصيلاً.
ماذا يعني ذلك الموقف ؟
هذا الموقف يعني بوضوح، أن الأساس المنطقي والصحيح والعادل يقوم على حل الدولتين، إذا كان الهدف إحلال السلام في الشرق الأوسط، وأن غير ذلك يعني انتهاز الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية السيئة لفرض أمر واقع جديد عن طريق الضغط باستخدام قوة النفوذ، أي الرضوخ لإرادة إسرائيل المدعومة بالإدارة والإرادة الأمريكية، في غياب موقف مقابل قادر على الرفض، وهذه نظرية يستند إليها الرئيس ترامب وقد عبّر عنها علنا، في مناسبات كثيرة، 'من دون مساعدتنا لا تصمد دولكم أسبوعين'.
هل تشكّل الحقوق الدينية والتاريخية والقانونية موقفاً قوياً؟ الجواب (نعم)، وذلك عندما تُظهر الشعوب تضامنها ومساندتها للمموقف الرسمي، وهنا تكمن قوة مواقف جلالة الملك المدعومة بتحالف الشعب الأردني، ومعه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، والمسيحية في رفضه لمنطلقات ومراحل وأدوات صفقة القرن، وهو موقف يقول للأطراف الأخرى إنكم تخرجون بهذا عن السياق التاريخي، وتضيّعون الوقت في قضية لا تحسمها الضغوط مهما بلغت قوة الضغط، وإنما يحسمُها الحقُ والعدلُ وإرادةُ السلام، وأنتم باختصار تطيلون أمد الصراع، وتزيدون من تعقيداته ومخاطره.
لا أبالغ إذا قلت إن الضغط يمكن أن يولد قوة موازية، يستخدمها جلالة الملك من خلال إثباب الخلل في موقف الطرف الآخر من الناحية العملية وهو لا يراهن على الوقت وحسب، ولكن على قوة الحق الذي يدافع عنه، في مقابل الباطل الذي تحاول تلك الأطراف فرضه على المنطقة، وعلى الطريق الصحيح الذي يقود الجميع نحو السلام والأمن والتعاون الإقليمي والعالمي، في مقابل الطريق الخاطئ الذي تسلكه تلك الأطراف بدافع من جنون العظمة وعنجهة القوة.
والعامل الهام الآخر في القوة التي تستند إليها مواقف جلالة الملك، يرتكز إلى الاحترام الذي يحظى به على المستوى الدولي في تبنيه لمبادرات الوئام والسلام بين الديانات والشعوب والثقافات والحضارات، التي تجسد بعضها في الأسبوع العالمي للوئام الذي تبنته الأمم المتحدة، وفي التقدير الذي حظي به ويحظى به من هيئات مسيحية، كما رأينا في جائزة (تمبلتون)، وجائزة (مصباح السلام)، وغيرها مما يقر بشرعية جلالته في الحفاظ على المقدسات والحقوق المسيحية في القدس، بكل ما يمثله من مشروعية دينية، بحكم نسبه الشريف لسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي أسرى به الله سبحانه وتعالى إلى المسجد الأقصى المبارك ليعرج منه إلى السموات العلا، وبحكم العهدة العمرية التي أرست قواعد الحقوق المشتركة للمسلمين والمسيحيين في مدينة القدس.
أردت أن أبدأ بـ(لاء) القدس والوصاية الهاشمية على مقدساتها، لأن ما يتبعها من (لا للوطن البديل ولا للتوطين)، ترتبطان حكماً بحجر الزاوية في الصراع المركزي، ذلك أن القبول بحل الدولتين يعني عودة القدس إلى السيادة الفلسطينية بإرثها الديني والتاريخي، ويعني إقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني على أرضه، وبالتالي يسقط خيار الوطن البديل، إن كان موجودا أصلاً، ويصبح الحديث عن الحقوق التي قررتها الشرعية الدولية لللاجئين الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير، بدل التوطين والتشريد والقهر.
أما أذا استمرت الإدارة الأمريكية ومعها إسرائيل في محاولة فرض الصفقة لتصفية القضية الفلسطينية، فإن الحقائق على الأرض ستضع الصفقة على المحك، ونحن على يقين أنها ستضل الطريق حتماً لأنه الطريق الخاطئ من خطوته الأولى، ورغم استمرار المستشار كوشنير في فكرته الساذجة (الاستثمار مقابل السلام) بدل الاستقلال مقابل السلام فإن جذور القضية الفلسطينية العربية أعمق بكثير من قطعها بأدوات واهية.
لا بد لي قبل أن أختم هذه المحاضرة أن أشير إلى بعض النقاط الواقعية حتى نُعزّز من قدراتنا على التعجيل بسقوط ما يسمى بصفقة القرن، وسواء كان الأمر سهلاً ممكناً أو صعباً معقداً، فإن عنصر الوعي والثقة بالنفس يلعبان دوراً مهماً جداً في إسقاط تلك الصفقة المريبة، وفي تشكيل بداية جديدة لحالة أردنية فلسطينية عربية، قادرة على تشكيل موقف إسلامي وإنساني مساند لحقوقنا المشروعة، يحفظ كرامتنا الوطنية والقومية، ويضمن مصالحنا وحقوقنا في الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار.
وفي الملخص،
أولاً: لا بد لنا في الأردن أن ندرك أكثر من أي وقت مضى أن أسباب ومسببات الوضع الاقتصادي الراهن ليست بعيدة عن مخطط مرسوم مسبقاً لكي يرضخ الأردن للضغوط، والاجراءات الحكومية لمعالجة هذا الوضع ليست كافية إذا لم يقابلها وعي وطني للأسباب الحقيقة وراء غياب الدعم الذي يستحقه الأردن، سواء مقابل مساهمته في الحرب على الإرهاب ضمن تحالف دولي وعربي، أو تحمله أعباء اللجوء السوري أو دوره الإيجابي في حل المشاكل والأزمات في المنطقة.
ذلك لا يعني، ألا نتحمل مسؤولية أخطائنا، وفشل العديد من السياسات الحكومية في إدارة اقتصادنا الوطني، لكن نحن أحوج ما نكون إلى مزيد من التضامن والتكافل الوطني، لتجاوز أزمتنا الراهنة من ناحية، ولتعزيز صمود بلدنا في وجه المخططات والأزمات والمخاطر والتهديدات من ناحية أخرى.
ثانياً: لا بد للأخوة الفلسطينيين أن ينهوا انقساهم على الفور، فقد تحوّلت المبررات إلى إدانات لكل من يتردد بعد في إعادة تشكيل موقف فلسطيني موحد وقوي، لأن أساس ضعف الموقف الفلسطيني، يعود إلى مسألتين: الأولى هي الانقسام السياسي الذي يعطي إسرائيل الحجة بادعائها عدم وجود طرف فلسطيني واحد تجلس معه على طاولة المفاوضات، والثانية اتفاقية (أوسلو) التي وضعت سقفاً هابطاً لحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال التام، الأمر الذي يفرض على إخواننا في السلطة الوطنية الفلسطينية إعادة تقييم الموقف من جديد، واتخاذ الخطوات والقرارات التي يتوجب عليهم اتخاذها .
ثالثاً : إن الوضع الراهن للعلاقات العربية العربية في أسوأ حالاته، ومن دون الدخول في التفاصيل بخاصة مسألة التطبيع السابق لأوانه، يمكن التركيز على نوع من التوافق بشأن الخلاف على أولوية التهديدات الخارجية، على أساس عدم التمييز بينها من حيث مخاطرها، فإذا كان الحديث عن تهديد للأمن القومي يراه بعض أشقائنا أنه أكثر خطورة من التهديد الإسرائيلي وغيره من التهديدات ذات البعدين الإقليمي والدولي، فلنتفق على أن التهديد هو التهديد، يجب الاستعداد والتصدي له بغض النظر عن مصدره، ذلك أن التهديد الأكثر خطورة لا يعني أن التهديد الأقل ليس تهديداً.
رابعاً: ليست الولايات المتحدة الأمريكية القوة الدولية الوحيدة وإن كانت الأكثر قوة، إن هناك من القوى الدولية مثل روسيا والصين ومعظم أوروبا تساند موقفنا، وتساند الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهي كذلك معنية بأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يجب توظيفه لدعم قدراتنا على مواجهة صفقة القرن، وإسقاطها.
أشكركم جزيل الشكر على اصغائكم، وآمل أن أكون قد وفقت في تلبية الغاية من هذه المحاضرة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التعليقات
العودات :أسباب الوضع الاقتصادي الراهن ليست بعيدة عن مخطط مرسوم لإرضاخ الاردن
التعليقات