في رواية ليلة النار لـ: اريك إيمانويل شميت، ترجمة: لينة بدر
د. ريمان عاشور
تساءلتُ بعد المضيِّ قليلًا في هذه الرواية: ما الذي سيضيفه فرنسيٌّ لم يعش في الصحراء ألبتة، ولم يك ابنها يومًا، وما حمل تراثه فصلًا عن فصول الصحراء وطبيعتها ومزاياها، ما الذي سيضيفه إلى عربيَّةٍ نشأت بين أبيات شعرٍ انغمست في الصحراء وتقلُّباتها وسحرها نشأةً قراءئية لم تبقِ على ثقب فيها إلا وسدَّته حقيقةً ومجازًا؛ حتى امتلأ وعاء عقلها وفاضت فجوات مخيلتها، بعبق الصحراء وتفاصيلها الصغيرة وحركة سفنها وطبائعهم وأسمائهم مصحوبةً بمراحلهم العمريَّة التي جعلت لهم اسمًا جديدًا كلَّما تجاوزوا عمرًا أو حالةً بيولوجية معينة كالرضاعة والولادة والصبا والشيخوخة والمرض والفقد والحزن، وما إلى ذلك..
وإذ بي أقرأ رجلًا يمحو تصحُّر نفسه وروحه، مع كلِّ خطوة قطعها في صحراء الجزائر، حتى بلوغ ذروة الحدث وتأزُّمه على الصعيد الروائيِّ الذي شكَّل مرحلةً انتقاليَّةً حاسمةً في حياة الراوي، قلبت حياته وأنبتت إيمانًا جديدًا في نفسه كان قد حاربه وأنكره طوال حياته حتى بلوغ تلك اللحظة..
وجرتْ بي مراكبُ العادة ألَّا أقرأ نقد أحدهم أو قراءته لنصٍّ أدبيٍّ ما، إلَّا بعد فروغي من قراءتي وحدي حين أبحر ومدادي ومباضعي بين تلاطم أمواج بحر ذاك العمل فاصطاد منها ما أصطاد، ثمَّ أتقهقر إلى ما كُتبَ عنه، أقلِّبه وأناقشه مع نفسي، فإذا ما صادف أن وجدت تقاربًا بالرأي بيني وبين الآخر السابق ذاك، أشرتُ له ووثَّقت قوله في الهوامش لأدَّعمَ رأيي الذي بلغته واعتمدته، وإن لم أجد قدَّمتُ قراءتي علَّها تسكنُ زاويةً أخرى وتشعل شموعًا ما أشعلت من ذي قبل..
وأنا في فعلي ذاك أشابه نفسي حين لا أحكم على أحدهم من رأي الآخرين فيه، فقد تُبنى آراؤهم على قُصْر نظرهم أو طوله في الفصل بين حَسَنِه ورديئه ، أو لعلَّه عاملهم بما عاملوه، وبانَ لهم كما بانوا له، وأظهر لهم ما استحقُّوه من إظهار..
وهكذا فعلتُ مع هذه الرواية، التي ما إن فرغتُ من قراءتها والكتابة عنها حتى رحتُ أفتِّش في (العمِّ چوچل) عمَّن كتب عنها، ففوجئتُ بأحدهم ممن وقعت عيني عليهم، وقد صنَّفها على أنَّها ضربٌ من ضروب أدب الرحلات، وكم استوقفني هذا التوصيف واتخذتُ عليه مآخذ جمَّة، قد لا يتَّسع هذا المقام للخوض فيها، إذ هذا ليس همِّي ها هنا..
وفي كلِّ رواية قرأتها وجدتها قد ضمَّت بين ضلوعها حكاية، بيد أنَّ بعض الحكايات لم ترتقِ لأن تكون روايةً..
لم أستطع المضيَّ سريعًا في قراءة هذه الرواية.. أثقلتني حركة الجمال البطيئة في الصحراء.. علقتْ قدماي وسط الرمال مع كلِّ خطوة رافقتُ الراوي بها فتباطأت خطواتي، وقد انفتق في رأسي كثيرٌ من الأسئلة النابعة من بركان كلِّ فقرة تفجَّرت أمام ناظري.. أسئلة حول المترجمة لينة بدر.. وأخرى حول بعض الجمل المفتاحيَّة، بل الجرسيَّة التي كانت تنقرع بعد كلِّ صفحة تطوى..
تساءلتُ مرارًا: هل نروي حين نروي تدافُعَ الأحداث فعليًّا من حولنا ونضمُّها مع انفجارات دواخلنا التي تواكب الحدث الخارجي؟ أم أنَّنا حين نعيد حياكة الرواية نقدِّم خطوةً ونؤخِّر أخرى لتبينَ كما استقرَّت في أنفسنا وأذهاننا..
لقد ردَّد الراوي جملة:' في مكان ما، ينتظرني وجهي الحقيقي' غير مرة في الثلث الأول من الرواية، تحديدا ص٣٧-ص٣٨-ص٤٠ وقد كان حينها عند العتبة الأولى من تلك الرحلة الصحراويَّة التي خاض غمارها مع مجموعة من المكتشفين وصديقه المخرج، وآخرين بقيادة أحد الطوارق الخبيرين بالارتحال في الصحراء الجزائريَّة والإبحار بين أسرارها وغموضها ومخاوفها ومخاطرها.. لم أشعر بكلمة تجربة تتحوَّل إلى كثبان رمليَّة متحرِّكة تحاول ابتلاعي ومضغي مثلما شعرتها اليوم أثناء قراءة هذه الرواية.. أيجدر بنا أن نعيش التجربة فعليًّا بحذافيرها ومخاطرها، وكلِّ ما فيها من انكشاف واحتلال وحفريات وتغيير، حتى يستدعي ذلك مواجهة أنفسنا واكتشاف ماهيتنا وسرَّ وجودنا ومن نحن حقًا! بعد أن كانت تفاصيل الحياة قد ابتلعتنا دواماتها، وما تفقَّدنا أنفسنا للحظات.. من نحن حقًا! ولمَ نحن هنا! ومن يجب أن نكون حين نكون؟ أم نستسلم هكذا ونسلِّم أطرافنا لتيَّارات الحياة، تجرفنا كما تشاء أن تجرف وتقذفنا حدَّ شواطىء النسيان!
وقد تعانقك قناعاتٌ كثيرةٌ، وأحاديثُ نفسٍ متباينة ومتلوِّنة، وأنت تعبر الرواية حين تلفي حقيقة أنَّ للبشر جميعهم كنهًا واحدًا، وجوهرًا متماثلًا يلتقون في رواقه لطرح أسئلة متشابهة ومتقاربة.. إذ تزداد نقاط تقاطعها وتشابكها كلَّما بلغ البشر المبلغ نفسه أو شبيهه من العلم والمعرفة، وينكشف ما وراء سجوف عوالمهم الإنسانيَّة العميقة في التوق نحو تفسير الكون وسرِّ الوجود وبواطن الظواهر الكونيَّة والبشريَّة ومسبِّباتها ومآلاتها.. وتنقرع أجراس الشكِّ بعد كلِّ درجة يسمو فيها العارف نحو كنه المعرفة..
لعلَّ الصحراء في انفساح أمدائها، وهدوئها الصارخ، وليلها المنجلي والكاشف عن اللا نهائيات؛ تُعدُّ خيرَ بيئةٍ جغرافيَّةٍ تكتنف رحلة البحث عن الذات، في الوقت الذي يظنُّ العابر فيها أنَّه يستكشفها، وإذ بها تنثر رذاذ سحرها عليه؛ لتجعله يرتحل مستظهِرًا نفسه، سابرًا أغوارها قبل أن يستكشف الجغرافية من حوله..
ولعلَّ ذاك هو نفسه السِّرُّ الكامن وراء سحر الأشعار التي وصلتنا من شعراء عاشوا في الصحراء، وكانت منبعَ وحيهم وسرَّ رهافة حسِّهم وتماسك قصائدهم، التي لملموا فيها أشلاء متراميةً من حولهم، يقرأونها قراءة المتمعِّن والمفكِّر والمتفكِّر والفيلسوف وطالب المعرفة، ثمَّ يعيدون صياغتها وسكبها في نصوص محسوسة ملموسة تُعيد إليهم الشعور بالوحدة بعد التشظِّي، وتخلِّد قراءتهم الكونية تلك.. حينئذٍ تأتي كلُّ قراءة اكتشافًا جديدًا للكون والوجود، كما تكون كلُّ كتابةٍ تخليدًا لذاك الاكتشاف ونقطة بدء لانطلاقة قراءات لاحقة. إنَّ الروايةَ التي تجعلك تعيد النظر في مقتنياتك الفكريَّة ومسلمَّاتك الوجوديَّة، وتدفعك نحو البحث والتأمُّل بين الصفحة والأخرى، هي روايةٌ متجاوزة صفحاتها متمرِّدة على حيِّزها الورقيِّ، كما أنَّها مغتالةٌ مفهوم فضائيها الزمانيِّ والمكانيِّ؛ لتصيِّركَ كائنًا متوتِّرًا لا يهدأ له بالٌ ولا يستقرُّ له حالٌ إلا بعد البحث والتنقيب خلف أسباب ورودِ أيَّة دلالة تخلَّقت في مثل هذا السياق الروائيِّ. لتتقافز إلى ذهنك كثيرٌ من أسئلة تهوي بك بين الشكِّ واليقين، والتصديق والتكذيب والارتجاج العاطفي في معظم ما كنت متيقنًا منه، ثمَّ التيقُّن من معظم تشكُّكاتك المزعومة، كما تهزُّ عروش الطمأنينة الفكريَّة والعلميَّة لديك؛ لتعيد النظر فيها وتعاود قراءة الكون ونفسك مرة أخرى.. إنها تجعلكَ تمتلك حدَّ القبض على الفراغ والإمساك به.. حدَّ إيقاف عقارب الزمن بين صفرين خاويين..
لقد نفضتُ الرواية من يدي غير مرَّة؛ كلَّما استوقفني اسمٌ كاسم ملكة الطوارق وشاعرتهم 'داسين' ورحت أبحث عنها وأقرأ حولها.. ثمَّ مضيتُ ببطء قبل أن أقف عند ماهيتنا في المرايا ودور المرايا في رؤيتنا لذواتنا، ومساهمتها في تشكيل تلك الرؤية، ثمَّ مدى اتساع المرايا لكينونتنا ونموِّنا الجسديِّ والنفسيِّ والوجدانيِّ والإنسانيِّ..
وقد لا نتعجَّب من تماهي الراوي مع الصحراء الجزائريَّة تماهيًّا أنتج دلالاتٍ استقرائيَّةً وسحرًا أخَّاذًا؛ حين اندغم بها فراح يقرأها من طرفٍ، وراحت تستظهره من طرفٍ آخر؛ فتستلَّ منه أنَّات ذاته وذبذباتها كاستلال الشعرة من قرص العجين..
فها هو ذا أخيرًا يكتشف سرَّ أرَقِه الدائم، وعدم قدرته على النوم طوال سنوات مديدة مضت.. لقد علق الراوي عند حادثة وفاة جدِّه الذي أحببه كثيرًا حين كان طفلًا، وبعد وفاته نُقل له الخبر على هيئة استعارة لغويَّة: 'جدّك قد نام إلى الأبد' تخفيفًا من وطء خبر الموت، وإذ بهذه الاستعارة تسلبه هنأة النوم ما عاش بعدها حتى بلوغه صحراء الجزائر التي دفعته نحو استقراء علامات اضطراب نومه وأسبابها بعد أن ارتبطت بمجازفة مغادرة الحياة بفعل النوم ..
وذاكَ مما أراه طبيعيًّا جدًّا، بل متوقعًا حين نقف على استجلاء سيميائيَّة الصحراء في عين فيلسوف أوروبيٍّ لم تكن الصحراء يومًا جزءًا من ذاكرته ومخيالها، تمامًا كما يسحرنا (برج إيڤل) في فرنسا حين نزور باريس، وكما تسحرنا (البندقية) بخصوصيتها وبهائها حين نهوي بين بحرها ويابسها حتى نبلغ كنيسة سان ماركو.
لعلَّ الحوار الأهم في رحلة الراوي الصحراويَّة تلك، هو حواره الفلسفيُّ مع إحدى أعضاء فريق الرحلة:'سيغولين' المتخصِّصة بطبِّ العيون، وحيث ذاك كنَّا بين طرح فلسفي انشغل بسرِّ الوجود والكائنات وغاية الكون ومآله، في حلَّة حكائيَّة، نقاشيَّة، ومحاججة يدافع أحدهما فيها عن وجهة نظره المؤمن بها ويثبتها بالحجج والبراهين، بينما يدحضها الآخر بحجَّة جديدة ومغزى مغاير..
إنَّ وقوفنا أمام مشهد كهذا كان قد سخَّر حوارًا فلسفيًّا يجعلنا نقف عند حقيقة الفيلسوف، ذلك أنَّه لا يتعدى كونه رجلًا لم تصدأ طفولته بعد، ولم يغادره الشكُّ الذي يدفع المرء نحو طلب المعرفة الدائم، هكذا يحيا الفيلسوف يتقلَّب فوق صفيح ساخن.
ومثل ذلك تقلَّبتُ أنا وعلقتُ بمحض إرادتي أعيد وأزيد من قراءة بعض صفحات هذه الرواية؛ فتتنكَّه الكلمات والتراكيب أمامي بنكهات جديدة أتلذَّذ بمذاقها مع كلِّ كرَّة. وقد جاء وقتٌ تمنيّتُ فيه لو أنَّ الصفحات لديها قدرةٌ خارقةٌ على الولادة والتكاثر؛ بُغية الاستزادة من شعور متجدِّد ومتدافع يرفض مغادرة هذا النصِّ الروائيِّ الثريِّ الساحر بعمقه..
إلى أن بلغتُ نقلةً أسلوبيَّةً ساطعةً بائنةً في لغة الراوي حضرت متلازمة مع تجربة الموت الدانية حين فقد الراوي أثر أصحابه وتاه في صحراء الجزائر.. هناك فقط باتت اللغة حاضرة على هيئة دفقات شعوريَّة، استهلَّها الراوي بلفظة (مكفَّن) وتهافتت خلفها مشاهد ذعر سيطرت عليه حين دنا منه الموت دنوًّا لا فكاك منه..
كم يبدو الموت قريبًا حين نخاله بعيدًا ونحيا الحياة وكأنَّنا لن نغادرها يومًا رغم يقيننا أنَّ النهاية هي الرحيل لا محال.. جاء تكرار تلك اللفظة(مكفَّن) غير مرَّة ليرحِّلنا ببراعة نحو الدفقات الشعوريَّة التي استحضرها الراوي من ذاكرته، حتى بدا ويكأنَّه يكتب تلك التجربة من داخل الحدث نفسه، فتُشاطره خوفه وذعره، وتتسارع نبضات قلبك في اشتهاء ملحٍّ على تقليب الصفحة تلو الأخرى بسرعة البرق، حتى تعود إلى التقاط أنفاسك والخروج من هذه الدائرة المنغلقة التي أحكمها حول وعيك فانتقل أثرها برشاقة منعكسًا على صدرك ونبض قلبك..
'مكفَّن! كردَّة فعل، تمنيِّتُ أن أتكوَّر على نفسي في وضعية الجنين على جانبي، لكنَّ الضريح الذي بنيته كان يمنعني من ذلك. شيء غريب.. لم أكن أعلم أنَّ حفنات من الرمل قد تزن إلى هذا الحدِّ. هأنذا محشور تحت طبقةٍ بنيتها بهمَّتي' الرواية، ص١٢٨
سنعجب تمامًا ونتوقَّف طويلًا بعد قراءة هذه الرواية التي تتقاطع مع فنِّ السيرة الذاتية-وإن تحفَّظنا على ذلك- أمام فرنسيٍّ منحدرٍ من ذئب وثب على الجزائر واستعمرها ما يزيد عن قرن من الزمان.. ممعنين النظر في العلاقة المحاكَة فيها بين المستعمِر والمستعمَر الذي تجلَّى في الفضاء المكانيِّ(الصحراء) والطارقي(موسى)الذي قادَ الرحلة الصحراويَّة وكان الدليل فيها، دون أن نستجلي إشارةً من بعيد أو قريب تلمِّح لذلك، فكأنَّ الأول لم يكن مستعمِرًا يومًا، ولا كان الثاني مستعمَرًا ذات سنوات طويلة..
كلُّ ما في الأمر أنَّ حريق عشقٍ اندلع بين الراوي و'تمنراست' حتى بلغ صحراء الجزائر، نافضًا عن كاهله تاريخ استعماره للمنطقة وجاعلًا الصحراء مركز الكون، منقِّبًا عن الله في نفسه: 'في الصحراء لا تهتمَّ بأيِّ شيء، فأنت مركز العالم' ص٩
في رواية ليلة النار لـ: اريك إيمانويل شميت، ترجمة: لينة بدر
د. ريمان عاشور
تساءلتُ بعد المضيِّ قليلًا في هذه الرواية: ما الذي سيضيفه فرنسيٌّ لم يعش في الصحراء ألبتة، ولم يك ابنها يومًا، وما حمل تراثه فصلًا عن فصول الصحراء وطبيعتها ومزاياها، ما الذي سيضيفه إلى عربيَّةٍ نشأت بين أبيات شعرٍ انغمست في الصحراء وتقلُّباتها وسحرها نشأةً قراءئية لم تبقِ على ثقب فيها إلا وسدَّته حقيقةً ومجازًا؛ حتى امتلأ وعاء عقلها وفاضت فجوات مخيلتها، بعبق الصحراء وتفاصيلها الصغيرة وحركة سفنها وطبائعهم وأسمائهم مصحوبةً بمراحلهم العمريَّة التي جعلت لهم اسمًا جديدًا كلَّما تجاوزوا عمرًا أو حالةً بيولوجية معينة كالرضاعة والولادة والصبا والشيخوخة والمرض والفقد والحزن، وما إلى ذلك..
وإذ بي أقرأ رجلًا يمحو تصحُّر نفسه وروحه، مع كلِّ خطوة قطعها في صحراء الجزائر، حتى بلوغ ذروة الحدث وتأزُّمه على الصعيد الروائيِّ الذي شكَّل مرحلةً انتقاليَّةً حاسمةً في حياة الراوي، قلبت حياته وأنبتت إيمانًا جديدًا في نفسه كان قد حاربه وأنكره طوال حياته حتى بلوغ تلك اللحظة..
وجرتْ بي مراكبُ العادة ألَّا أقرأ نقد أحدهم أو قراءته لنصٍّ أدبيٍّ ما، إلَّا بعد فروغي من قراءتي وحدي حين أبحر ومدادي ومباضعي بين تلاطم أمواج بحر ذاك العمل فاصطاد منها ما أصطاد، ثمَّ أتقهقر إلى ما كُتبَ عنه، أقلِّبه وأناقشه مع نفسي، فإذا ما صادف أن وجدت تقاربًا بالرأي بيني وبين الآخر السابق ذاك، أشرتُ له ووثَّقت قوله في الهوامش لأدَّعمَ رأيي الذي بلغته واعتمدته، وإن لم أجد قدَّمتُ قراءتي علَّها تسكنُ زاويةً أخرى وتشعل شموعًا ما أشعلت من ذي قبل..
وأنا في فعلي ذاك أشابه نفسي حين لا أحكم على أحدهم من رأي الآخرين فيه، فقد تُبنى آراؤهم على قُصْر نظرهم أو طوله في الفصل بين حَسَنِه ورديئه ، أو لعلَّه عاملهم بما عاملوه، وبانَ لهم كما بانوا له، وأظهر لهم ما استحقُّوه من إظهار..
وهكذا فعلتُ مع هذه الرواية، التي ما إن فرغتُ من قراءتها والكتابة عنها حتى رحتُ أفتِّش في (العمِّ چوچل) عمَّن كتب عنها، ففوجئتُ بأحدهم ممن وقعت عيني عليهم، وقد صنَّفها على أنَّها ضربٌ من ضروب أدب الرحلات، وكم استوقفني هذا التوصيف واتخذتُ عليه مآخذ جمَّة، قد لا يتَّسع هذا المقام للخوض فيها، إذ هذا ليس همِّي ها هنا..
وفي كلِّ رواية قرأتها وجدتها قد ضمَّت بين ضلوعها حكاية، بيد أنَّ بعض الحكايات لم ترتقِ لأن تكون روايةً..
لم أستطع المضيَّ سريعًا في قراءة هذه الرواية.. أثقلتني حركة الجمال البطيئة في الصحراء.. علقتْ قدماي وسط الرمال مع كلِّ خطوة رافقتُ الراوي بها فتباطأت خطواتي، وقد انفتق في رأسي كثيرٌ من الأسئلة النابعة من بركان كلِّ فقرة تفجَّرت أمام ناظري.. أسئلة حول المترجمة لينة بدر.. وأخرى حول بعض الجمل المفتاحيَّة، بل الجرسيَّة التي كانت تنقرع بعد كلِّ صفحة تطوى..
تساءلتُ مرارًا: هل نروي حين نروي تدافُعَ الأحداث فعليًّا من حولنا ونضمُّها مع انفجارات دواخلنا التي تواكب الحدث الخارجي؟ أم أنَّنا حين نعيد حياكة الرواية نقدِّم خطوةً ونؤخِّر أخرى لتبينَ كما استقرَّت في أنفسنا وأذهاننا..
لقد ردَّد الراوي جملة:' في مكان ما، ينتظرني وجهي الحقيقي' غير مرة في الثلث الأول من الرواية، تحديدا ص٣٧-ص٣٨-ص٤٠ وقد كان حينها عند العتبة الأولى من تلك الرحلة الصحراويَّة التي خاض غمارها مع مجموعة من المكتشفين وصديقه المخرج، وآخرين بقيادة أحد الطوارق الخبيرين بالارتحال في الصحراء الجزائريَّة والإبحار بين أسرارها وغموضها ومخاوفها ومخاطرها.. لم أشعر بكلمة تجربة تتحوَّل إلى كثبان رمليَّة متحرِّكة تحاول ابتلاعي ومضغي مثلما شعرتها اليوم أثناء قراءة هذه الرواية.. أيجدر بنا أن نعيش التجربة فعليًّا بحذافيرها ومخاطرها، وكلِّ ما فيها من انكشاف واحتلال وحفريات وتغيير، حتى يستدعي ذلك مواجهة أنفسنا واكتشاف ماهيتنا وسرَّ وجودنا ومن نحن حقًا! بعد أن كانت تفاصيل الحياة قد ابتلعتنا دواماتها، وما تفقَّدنا أنفسنا للحظات.. من نحن حقًا! ولمَ نحن هنا! ومن يجب أن نكون حين نكون؟ أم نستسلم هكذا ونسلِّم أطرافنا لتيَّارات الحياة، تجرفنا كما تشاء أن تجرف وتقذفنا حدَّ شواطىء النسيان!
وقد تعانقك قناعاتٌ كثيرةٌ، وأحاديثُ نفسٍ متباينة ومتلوِّنة، وأنت تعبر الرواية حين تلفي حقيقة أنَّ للبشر جميعهم كنهًا واحدًا، وجوهرًا متماثلًا يلتقون في رواقه لطرح أسئلة متشابهة ومتقاربة.. إذ تزداد نقاط تقاطعها وتشابكها كلَّما بلغ البشر المبلغ نفسه أو شبيهه من العلم والمعرفة، وينكشف ما وراء سجوف عوالمهم الإنسانيَّة العميقة في التوق نحو تفسير الكون وسرِّ الوجود وبواطن الظواهر الكونيَّة والبشريَّة ومسبِّباتها ومآلاتها.. وتنقرع أجراس الشكِّ بعد كلِّ درجة يسمو فيها العارف نحو كنه المعرفة..
لعلَّ الصحراء في انفساح أمدائها، وهدوئها الصارخ، وليلها المنجلي والكاشف عن اللا نهائيات؛ تُعدُّ خيرَ بيئةٍ جغرافيَّةٍ تكتنف رحلة البحث عن الذات، في الوقت الذي يظنُّ العابر فيها أنَّه يستكشفها، وإذ بها تنثر رذاذ سحرها عليه؛ لتجعله يرتحل مستظهِرًا نفسه، سابرًا أغوارها قبل أن يستكشف الجغرافية من حوله..
ولعلَّ ذاك هو نفسه السِّرُّ الكامن وراء سحر الأشعار التي وصلتنا من شعراء عاشوا في الصحراء، وكانت منبعَ وحيهم وسرَّ رهافة حسِّهم وتماسك قصائدهم، التي لملموا فيها أشلاء متراميةً من حولهم، يقرأونها قراءة المتمعِّن والمفكِّر والمتفكِّر والفيلسوف وطالب المعرفة، ثمَّ يعيدون صياغتها وسكبها في نصوص محسوسة ملموسة تُعيد إليهم الشعور بالوحدة بعد التشظِّي، وتخلِّد قراءتهم الكونية تلك.. حينئذٍ تأتي كلُّ قراءة اكتشافًا جديدًا للكون والوجود، كما تكون كلُّ كتابةٍ تخليدًا لذاك الاكتشاف ونقطة بدء لانطلاقة قراءات لاحقة. إنَّ الروايةَ التي تجعلك تعيد النظر في مقتنياتك الفكريَّة ومسلمَّاتك الوجوديَّة، وتدفعك نحو البحث والتأمُّل بين الصفحة والأخرى، هي روايةٌ متجاوزة صفحاتها متمرِّدة على حيِّزها الورقيِّ، كما أنَّها مغتالةٌ مفهوم فضائيها الزمانيِّ والمكانيِّ؛ لتصيِّركَ كائنًا متوتِّرًا لا يهدأ له بالٌ ولا يستقرُّ له حالٌ إلا بعد البحث والتنقيب خلف أسباب ورودِ أيَّة دلالة تخلَّقت في مثل هذا السياق الروائيِّ. لتتقافز إلى ذهنك كثيرٌ من أسئلة تهوي بك بين الشكِّ واليقين، والتصديق والتكذيب والارتجاج العاطفي في معظم ما كنت متيقنًا منه، ثمَّ التيقُّن من معظم تشكُّكاتك المزعومة، كما تهزُّ عروش الطمأنينة الفكريَّة والعلميَّة لديك؛ لتعيد النظر فيها وتعاود قراءة الكون ونفسك مرة أخرى.. إنها تجعلكَ تمتلك حدَّ القبض على الفراغ والإمساك به.. حدَّ إيقاف عقارب الزمن بين صفرين خاويين..
لقد نفضتُ الرواية من يدي غير مرَّة؛ كلَّما استوقفني اسمٌ كاسم ملكة الطوارق وشاعرتهم 'داسين' ورحت أبحث عنها وأقرأ حولها.. ثمَّ مضيتُ ببطء قبل أن أقف عند ماهيتنا في المرايا ودور المرايا في رؤيتنا لذواتنا، ومساهمتها في تشكيل تلك الرؤية، ثمَّ مدى اتساع المرايا لكينونتنا ونموِّنا الجسديِّ والنفسيِّ والوجدانيِّ والإنسانيِّ..
وقد لا نتعجَّب من تماهي الراوي مع الصحراء الجزائريَّة تماهيًّا أنتج دلالاتٍ استقرائيَّةً وسحرًا أخَّاذًا؛ حين اندغم بها فراح يقرأها من طرفٍ، وراحت تستظهره من طرفٍ آخر؛ فتستلَّ منه أنَّات ذاته وذبذباتها كاستلال الشعرة من قرص العجين..
فها هو ذا أخيرًا يكتشف سرَّ أرَقِه الدائم، وعدم قدرته على النوم طوال سنوات مديدة مضت.. لقد علق الراوي عند حادثة وفاة جدِّه الذي أحببه كثيرًا حين كان طفلًا، وبعد وفاته نُقل له الخبر على هيئة استعارة لغويَّة: 'جدّك قد نام إلى الأبد' تخفيفًا من وطء خبر الموت، وإذ بهذه الاستعارة تسلبه هنأة النوم ما عاش بعدها حتى بلوغه صحراء الجزائر التي دفعته نحو استقراء علامات اضطراب نومه وأسبابها بعد أن ارتبطت بمجازفة مغادرة الحياة بفعل النوم ..
وذاكَ مما أراه طبيعيًّا جدًّا، بل متوقعًا حين نقف على استجلاء سيميائيَّة الصحراء في عين فيلسوف أوروبيٍّ لم تكن الصحراء يومًا جزءًا من ذاكرته ومخيالها، تمامًا كما يسحرنا (برج إيڤل) في فرنسا حين نزور باريس، وكما تسحرنا (البندقية) بخصوصيتها وبهائها حين نهوي بين بحرها ويابسها حتى نبلغ كنيسة سان ماركو.
لعلَّ الحوار الأهم في رحلة الراوي الصحراويَّة تلك، هو حواره الفلسفيُّ مع إحدى أعضاء فريق الرحلة:'سيغولين' المتخصِّصة بطبِّ العيون، وحيث ذاك كنَّا بين طرح فلسفي انشغل بسرِّ الوجود والكائنات وغاية الكون ومآله، في حلَّة حكائيَّة، نقاشيَّة، ومحاججة يدافع أحدهما فيها عن وجهة نظره المؤمن بها ويثبتها بالحجج والبراهين، بينما يدحضها الآخر بحجَّة جديدة ومغزى مغاير..
إنَّ وقوفنا أمام مشهد كهذا كان قد سخَّر حوارًا فلسفيًّا يجعلنا نقف عند حقيقة الفيلسوف، ذلك أنَّه لا يتعدى كونه رجلًا لم تصدأ طفولته بعد، ولم يغادره الشكُّ الذي يدفع المرء نحو طلب المعرفة الدائم، هكذا يحيا الفيلسوف يتقلَّب فوق صفيح ساخن.
ومثل ذلك تقلَّبتُ أنا وعلقتُ بمحض إرادتي أعيد وأزيد من قراءة بعض صفحات هذه الرواية؛ فتتنكَّه الكلمات والتراكيب أمامي بنكهات جديدة أتلذَّذ بمذاقها مع كلِّ كرَّة. وقد جاء وقتٌ تمنيّتُ فيه لو أنَّ الصفحات لديها قدرةٌ خارقةٌ على الولادة والتكاثر؛ بُغية الاستزادة من شعور متجدِّد ومتدافع يرفض مغادرة هذا النصِّ الروائيِّ الثريِّ الساحر بعمقه..
إلى أن بلغتُ نقلةً أسلوبيَّةً ساطعةً بائنةً في لغة الراوي حضرت متلازمة مع تجربة الموت الدانية حين فقد الراوي أثر أصحابه وتاه في صحراء الجزائر.. هناك فقط باتت اللغة حاضرة على هيئة دفقات شعوريَّة، استهلَّها الراوي بلفظة (مكفَّن) وتهافتت خلفها مشاهد ذعر سيطرت عليه حين دنا منه الموت دنوًّا لا فكاك منه..
كم يبدو الموت قريبًا حين نخاله بعيدًا ونحيا الحياة وكأنَّنا لن نغادرها يومًا رغم يقيننا أنَّ النهاية هي الرحيل لا محال.. جاء تكرار تلك اللفظة(مكفَّن) غير مرَّة ليرحِّلنا ببراعة نحو الدفقات الشعوريَّة التي استحضرها الراوي من ذاكرته، حتى بدا ويكأنَّه يكتب تلك التجربة من داخل الحدث نفسه، فتُشاطره خوفه وذعره، وتتسارع نبضات قلبك في اشتهاء ملحٍّ على تقليب الصفحة تلو الأخرى بسرعة البرق، حتى تعود إلى التقاط أنفاسك والخروج من هذه الدائرة المنغلقة التي أحكمها حول وعيك فانتقل أثرها برشاقة منعكسًا على صدرك ونبض قلبك..
'مكفَّن! كردَّة فعل، تمنيِّتُ أن أتكوَّر على نفسي في وضعية الجنين على جانبي، لكنَّ الضريح الذي بنيته كان يمنعني من ذلك. شيء غريب.. لم أكن أعلم أنَّ حفنات من الرمل قد تزن إلى هذا الحدِّ. هأنذا محشور تحت طبقةٍ بنيتها بهمَّتي' الرواية، ص١٢٨
سنعجب تمامًا ونتوقَّف طويلًا بعد قراءة هذه الرواية التي تتقاطع مع فنِّ السيرة الذاتية-وإن تحفَّظنا على ذلك- أمام فرنسيٍّ منحدرٍ من ذئب وثب على الجزائر واستعمرها ما يزيد عن قرن من الزمان.. ممعنين النظر في العلاقة المحاكَة فيها بين المستعمِر والمستعمَر الذي تجلَّى في الفضاء المكانيِّ(الصحراء) والطارقي(موسى)الذي قادَ الرحلة الصحراويَّة وكان الدليل فيها، دون أن نستجلي إشارةً من بعيد أو قريب تلمِّح لذلك، فكأنَّ الأول لم يكن مستعمِرًا يومًا، ولا كان الثاني مستعمَرًا ذات سنوات طويلة..
كلُّ ما في الأمر أنَّ حريق عشقٍ اندلع بين الراوي و'تمنراست' حتى بلغ صحراء الجزائر، نافضًا عن كاهله تاريخ استعماره للمنطقة وجاعلًا الصحراء مركز الكون، منقِّبًا عن الله في نفسه: 'في الصحراء لا تهتمَّ بأيِّ شيء، فأنت مركز العالم' ص٩
في رواية ليلة النار لـ: اريك إيمانويل شميت، ترجمة: لينة بدر
د. ريمان عاشور
تساءلتُ بعد المضيِّ قليلًا في هذه الرواية: ما الذي سيضيفه فرنسيٌّ لم يعش في الصحراء ألبتة، ولم يك ابنها يومًا، وما حمل تراثه فصلًا عن فصول الصحراء وطبيعتها ومزاياها، ما الذي سيضيفه إلى عربيَّةٍ نشأت بين أبيات شعرٍ انغمست في الصحراء وتقلُّباتها وسحرها نشأةً قراءئية لم تبقِ على ثقب فيها إلا وسدَّته حقيقةً ومجازًا؛ حتى امتلأ وعاء عقلها وفاضت فجوات مخيلتها، بعبق الصحراء وتفاصيلها الصغيرة وحركة سفنها وطبائعهم وأسمائهم مصحوبةً بمراحلهم العمريَّة التي جعلت لهم اسمًا جديدًا كلَّما تجاوزوا عمرًا أو حالةً بيولوجية معينة كالرضاعة والولادة والصبا والشيخوخة والمرض والفقد والحزن، وما إلى ذلك..
وإذ بي أقرأ رجلًا يمحو تصحُّر نفسه وروحه، مع كلِّ خطوة قطعها في صحراء الجزائر، حتى بلوغ ذروة الحدث وتأزُّمه على الصعيد الروائيِّ الذي شكَّل مرحلةً انتقاليَّةً حاسمةً في حياة الراوي، قلبت حياته وأنبتت إيمانًا جديدًا في نفسه كان قد حاربه وأنكره طوال حياته حتى بلوغ تلك اللحظة..
وجرتْ بي مراكبُ العادة ألَّا أقرأ نقد أحدهم أو قراءته لنصٍّ أدبيٍّ ما، إلَّا بعد فروغي من قراءتي وحدي حين أبحر ومدادي ومباضعي بين تلاطم أمواج بحر ذاك العمل فاصطاد منها ما أصطاد، ثمَّ أتقهقر إلى ما كُتبَ عنه، أقلِّبه وأناقشه مع نفسي، فإذا ما صادف أن وجدت تقاربًا بالرأي بيني وبين الآخر السابق ذاك، أشرتُ له ووثَّقت قوله في الهوامش لأدَّعمَ رأيي الذي بلغته واعتمدته، وإن لم أجد قدَّمتُ قراءتي علَّها تسكنُ زاويةً أخرى وتشعل شموعًا ما أشعلت من ذي قبل..
وأنا في فعلي ذاك أشابه نفسي حين لا أحكم على أحدهم من رأي الآخرين فيه، فقد تُبنى آراؤهم على قُصْر نظرهم أو طوله في الفصل بين حَسَنِه ورديئه ، أو لعلَّه عاملهم بما عاملوه، وبانَ لهم كما بانوا له، وأظهر لهم ما استحقُّوه من إظهار..
وهكذا فعلتُ مع هذه الرواية، التي ما إن فرغتُ من قراءتها والكتابة عنها حتى رحتُ أفتِّش في (العمِّ چوچل) عمَّن كتب عنها، ففوجئتُ بأحدهم ممن وقعت عيني عليهم، وقد صنَّفها على أنَّها ضربٌ من ضروب أدب الرحلات، وكم استوقفني هذا التوصيف واتخذتُ عليه مآخذ جمَّة، قد لا يتَّسع هذا المقام للخوض فيها، إذ هذا ليس همِّي ها هنا..
وفي كلِّ رواية قرأتها وجدتها قد ضمَّت بين ضلوعها حكاية، بيد أنَّ بعض الحكايات لم ترتقِ لأن تكون روايةً..
لم أستطع المضيَّ سريعًا في قراءة هذه الرواية.. أثقلتني حركة الجمال البطيئة في الصحراء.. علقتْ قدماي وسط الرمال مع كلِّ خطوة رافقتُ الراوي بها فتباطأت خطواتي، وقد انفتق في رأسي كثيرٌ من الأسئلة النابعة من بركان كلِّ فقرة تفجَّرت أمام ناظري.. أسئلة حول المترجمة لينة بدر.. وأخرى حول بعض الجمل المفتاحيَّة، بل الجرسيَّة التي كانت تنقرع بعد كلِّ صفحة تطوى..
تساءلتُ مرارًا: هل نروي حين نروي تدافُعَ الأحداث فعليًّا من حولنا ونضمُّها مع انفجارات دواخلنا التي تواكب الحدث الخارجي؟ أم أنَّنا حين نعيد حياكة الرواية نقدِّم خطوةً ونؤخِّر أخرى لتبينَ كما استقرَّت في أنفسنا وأذهاننا..
لقد ردَّد الراوي جملة:' في مكان ما، ينتظرني وجهي الحقيقي' غير مرة في الثلث الأول من الرواية، تحديدا ص٣٧-ص٣٨-ص٤٠ وقد كان حينها عند العتبة الأولى من تلك الرحلة الصحراويَّة التي خاض غمارها مع مجموعة من المكتشفين وصديقه المخرج، وآخرين بقيادة أحد الطوارق الخبيرين بالارتحال في الصحراء الجزائريَّة والإبحار بين أسرارها وغموضها ومخاوفها ومخاطرها.. لم أشعر بكلمة تجربة تتحوَّل إلى كثبان رمليَّة متحرِّكة تحاول ابتلاعي ومضغي مثلما شعرتها اليوم أثناء قراءة هذه الرواية.. أيجدر بنا أن نعيش التجربة فعليًّا بحذافيرها ومخاطرها، وكلِّ ما فيها من انكشاف واحتلال وحفريات وتغيير، حتى يستدعي ذلك مواجهة أنفسنا واكتشاف ماهيتنا وسرَّ وجودنا ومن نحن حقًا! بعد أن كانت تفاصيل الحياة قد ابتلعتنا دواماتها، وما تفقَّدنا أنفسنا للحظات.. من نحن حقًا! ولمَ نحن هنا! ومن يجب أن نكون حين نكون؟ أم نستسلم هكذا ونسلِّم أطرافنا لتيَّارات الحياة، تجرفنا كما تشاء أن تجرف وتقذفنا حدَّ شواطىء النسيان!
وقد تعانقك قناعاتٌ كثيرةٌ، وأحاديثُ نفسٍ متباينة ومتلوِّنة، وأنت تعبر الرواية حين تلفي حقيقة أنَّ للبشر جميعهم كنهًا واحدًا، وجوهرًا متماثلًا يلتقون في رواقه لطرح أسئلة متشابهة ومتقاربة.. إذ تزداد نقاط تقاطعها وتشابكها كلَّما بلغ البشر المبلغ نفسه أو شبيهه من العلم والمعرفة، وينكشف ما وراء سجوف عوالمهم الإنسانيَّة العميقة في التوق نحو تفسير الكون وسرِّ الوجود وبواطن الظواهر الكونيَّة والبشريَّة ومسبِّباتها ومآلاتها.. وتنقرع أجراس الشكِّ بعد كلِّ درجة يسمو فيها العارف نحو كنه المعرفة..
لعلَّ الصحراء في انفساح أمدائها، وهدوئها الصارخ، وليلها المنجلي والكاشف عن اللا نهائيات؛ تُعدُّ خيرَ بيئةٍ جغرافيَّةٍ تكتنف رحلة البحث عن الذات، في الوقت الذي يظنُّ العابر فيها أنَّه يستكشفها، وإذ بها تنثر رذاذ سحرها عليه؛ لتجعله يرتحل مستظهِرًا نفسه، سابرًا أغوارها قبل أن يستكشف الجغرافية من حوله..
ولعلَّ ذاك هو نفسه السِّرُّ الكامن وراء سحر الأشعار التي وصلتنا من شعراء عاشوا في الصحراء، وكانت منبعَ وحيهم وسرَّ رهافة حسِّهم وتماسك قصائدهم، التي لملموا فيها أشلاء متراميةً من حولهم، يقرأونها قراءة المتمعِّن والمفكِّر والمتفكِّر والفيلسوف وطالب المعرفة، ثمَّ يعيدون صياغتها وسكبها في نصوص محسوسة ملموسة تُعيد إليهم الشعور بالوحدة بعد التشظِّي، وتخلِّد قراءتهم الكونية تلك.. حينئذٍ تأتي كلُّ قراءة اكتشافًا جديدًا للكون والوجود، كما تكون كلُّ كتابةٍ تخليدًا لذاك الاكتشاف ونقطة بدء لانطلاقة قراءات لاحقة. إنَّ الروايةَ التي تجعلك تعيد النظر في مقتنياتك الفكريَّة ومسلمَّاتك الوجوديَّة، وتدفعك نحو البحث والتأمُّل بين الصفحة والأخرى، هي روايةٌ متجاوزة صفحاتها متمرِّدة على حيِّزها الورقيِّ، كما أنَّها مغتالةٌ مفهوم فضائيها الزمانيِّ والمكانيِّ؛ لتصيِّركَ كائنًا متوتِّرًا لا يهدأ له بالٌ ولا يستقرُّ له حالٌ إلا بعد البحث والتنقيب خلف أسباب ورودِ أيَّة دلالة تخلَّقت في مثل هذا السياق الروائيِّ. لتتقافز إلى ذهنك كثيرٌ من أسئلة تهوي بك بين الشكِّ واليقين، والتصديق والتكذيب والارتجاج العاطفي في معظم ما كنت متيقنًا منه، ثمَّ التيقُّن من معظم تشكُّكاتك المزعومة، كما تهزُّ عروش الطمأنينة الفكريَّة والعلميَّة لديك؛ لتعيد النظر فيها وتعاود قراءة الكون ونفسك مرة أخرى.. إنها تجعلكَ تمتلك حدَّ القبض على الفراغ والإمساك به.. حدَّ إيقاف عقارب الزمن بين صفرين خاويين..
لقد نفضتُ الرواية من يدي غير مرَّة؛ كلَّما استوقفني اسمٌ كاسم ملكة الطوارق وشاعرتهم 'داسين' ورحت أبحث عنها وأقرأ حولها.. ثمَّ مضيتُ ببطء قبل أن أقف عند ماهيتنا في المرايا ودور المرايا في رؤيتنا لذواتنا، ومساهمتها في تشكيل تلك الرؤية، ثمَّ مدى اتساع المرايا لكينونتنا ونموِّنا الجسديِّ والنفسيِّ والوجدانيِّ والإنسانيِّ..
وقد لا نتعجَّب من تماهي الراوي مع الصحراء الجزائريَّة تماهيًّا أنتج دلالاتٍ استقرائيَّةً وسحرًا أخَّاذًا؛ حين اندغم بها فراح يقرأها من طرفٍ، وراحت تستظهره من طرفٍ آخر؛ فتستلَّ منه أنَّات ذاته وذبذباتها كاستلال الشعرة من قرص العجين..
فها هو ذا أخيرًا يكتشف سرَّ أرَقِه الدائم، وعدم قدرته على النوم طوال سنوات مديدة مضت.. لقد علق الراوي عند حادثة وفاة جدِّه الذي أحببه كثيرًا حين كان طفلًا، وبعد وفاته نُقل له الخبر على هيئة استعارة لغويَّة: 'جدّك قد نام إلى الأبد' تخفيفًا من وطء خبر الموت، وإذ بهذه الاستعارة تسلبه هنأة النوم ما عاش بعدها حتى بلوغه صحراء الجزائر التي دفعته نحو استقراء علامات اضطراب نومه وأسبابها بعد أن ارتبطت بمجازفة مغادرة الحياة بفعل النوم ..
وذاكَ مما أراه طبيعيًّا جدًّا، بل متوقعًا حين نقف على استجلاء سيميائيَّة الصحراء في عين فيلسوف أوروبيٍّ لم تكن الصحراء يومًا جزءًا من ذاكرته ومخيالها، تمامًا كما يسحرنا (برج إيڤل) في فرنسا حين نزور باريس، وكما تسحرنا (البندقية) بخصوصيتها وبهائها حين نهوي بين بحرها ويابسها حتى نبلغ كنيسة سان ماركو.
لعلَّ الحوار الأهم في رحلة الراوي الصحراويَّة تلك، هو حواره الفلسفيُّ مع إحدى أعضاء فريق الرحلة:'سيغولين' المتخصِّصة بطبِّ العيون، وحيث ذاك كنَّا بين طرح فلسفي انشغل بسرِّ الوجود والكائنات وغاية الكون ومآله، في حلَّة حكائيَّة، نقاشيَّة، ومحاججة يدافع أحدهما فيها عن وجهة نظره المؤمن بها ويثبتها بالحجج والبراهين، بينما يدحضها الآخر بحجَّة جديدة ومغزى مغاير..
إنَّ وقوفنا أمام مشهد كهذا كان قد سخَّر حوارًا فلسفيًّا يجعلنا نقف عند حقيقة الفيلسوف، ذلك أنَّه لا يتعدى كونه رجلًا لم تصدأ طفولته بعد، ولم يغادره الشكُّ الذي يدفع المرء نحو طلب المعرفة الدائم، هكذا يحيا الفيلسوف يتقلَّب فوق صفيح ساخن.
ومثل ذلك تقلَّبتُ أنا وعلقتُ بمحض إرادتي أعيد وأزيد من قراءة بعض صفحات هذه الرواية؛ فتتنكَّه الكلمات والتراكيب أمامي بنكهات جديدة أتلذَّذ بمذاقها مع كلِّ كرَّة. وقد جاء وقتٌ تمنيّتُ فيه لو أنَّ الصفحات لديها قدرةٌ خارقةٌ على الولادة والتكاثر؛ بُغية الاستزادة من شعور متجدِّد ومتدافع يرفض مغادرة هذا النصِّ الروائيِّ الثريِّ الساحر بعمقه..
إلى أن بلغتُ نقلةً أسلوبيَّةً ساطعةً بائنةً في لغة الراوي حضرت متلازمة مع تجربة الموت الدانية حين فقد الراوي أثر أصحابه وتاه في صحراء الجزائر.. هناك فقط باتت اللغة حاضرة على هيئة دفقات شعوريَّة، استهلَّها الراوي بلفظة (مكفَّن) وتهافتت خلفها مشاهد ذعر سيطرت عليه حين دنا منه الموت دنوًّا لا فكاك منه..
كم يبدو الموت قريبًا حين نخاله بعيدًا ونحيا الحياة وكأنَّنا لن نغادرها يومًا رغم يقيننا أنَّ النهاية هي الرحيل لا محال.. جاء تكرار تلك اللفظة(مكفَّن) غير مرَّة ليرحِّلنا ببراعة نحو الدفقات الشعوريَّة التي استحضرها الراوي من ذاكرته، حتى بدا ويكأنَّه يكتب تلك التجربة من داخل الحدث نفسه، فتُشاطره خوفه وذعره، وتتسارع نبضات قلبك في اشتهاء ملحٍّ على تقليب الصفحة تلو الأخرى بسرعة البرق، حتى تعود إلى التقاط أنفاسك والخروج من هذه الدائرة المنغلقة التي أحكمها حول وعيك فانتقل أثرها برشاقة منعكسًا على صدرك ونبض قلبك..
'مكفَّن! كردَّة فعل، تمنيِّتُ أن أتكوَّر على نفسي في وضعية الجنين على جانبي، لكنَّ الضريح الذي بنيته كان يمنعني من ذلك. شيء غريب.. لم أكن أعلم أنَّ حفنات من الرمل قد تزن إلى هذا الحدِّ. هأنذا محشور تحت طبقةٍ بنيتها بهمَّتي' الرواية، ص١٢٨
سنعجب تمامًا ونتوقَّف طويلًا بعد قراءة هذه الرواية التي تتقاطع مع فنِّ السيرة الذاتية-وإن تحفَّظنا على ذلك- أمام فرنسيٍّ منحدرٍ من ذئب وثب على الجزائر واستعمرها ما يزيد عن قرن من الزمان.. ممعنين النظر في العلاقة المحاكَة فيها بين المستعمِر والمستعمَر الذي تجلَّى في الفضاء المكانيِّ(الصحراء) والطارقي(موسى)الذي قادَ الرحلة الصحراويَّة وكان الدليل فيها، دون أن نستجلي إشارةً من بعيد أو قريب تلمِّح لذلك، فكأنَّ الأول لم يكن مستعمِرًا يومًا، ولا كان الثاني مستعمَرًا ذات سنوات طويلة..
كلُّ ما في الأمر أنَّ حريق عشقٍ اندلع بين الراوي و'تمنراست' حتى بلغ صحراء الجزائر، نافضًا عن كاهله تاريخ استعماره للمنطقة وجاعلًا الصحراء مركز الكون، منقِّبًا عن الله في نفسه: 'في الصحراء لا تهتمَّ بأيِّ شيء، فأنت مركز العالم' ص٩
التعليقات